وكانت الدعوة لـ"إعادة كتابة التاريخ" القُطري أو القومي قد صدرت عن نوعين من الدول والأنظمة العربية. يخصّ النوع الأول البلدان التي خضعت طويلًا إلى الهيمنة الاستعمارية وهو ما أدى إلى كتابة تاريخها برؤية استعمارية غير علمية برّرت في الغالب الوجود الاستعماري وخياراته وتصرفات أجهزته، أمّا النوع الثاني فَيَهُمُّ البلدان التي عرفت ثورات أو انقلابات عسكرية جاءت بسلطة جديدة تحمل أفكارًا ومشاريع مناقضة للسلطات التي خلفتها.
والحال أنّ مصطلح "إعادة كتابة التاريخ"، في حدّ ذاته، لا يبدو مفهومًا علميًا دقيقًا، إذ إنّ المطالبة بإعادة كتابة التاريخ تعني أن كل ما كُتب لم يكن إلّا تزويرًا وكذبًا وافتعالًا لأحداث ووقائع، وهو ما يُفقد تلك الدعوة بعضًا من المصداقية باعتبار أنها موجّهة ومؤطرة لتحقيق أهداف سياسية وربما أيديولوجية خاصة إذا اعتبرنا أنّ كل كتابة تاريخية لا تعدو أن تكون مقاربة لقضية محددة من زاوية ما، وبوسائل منهجية معينة.
لا يعثر مؤرّخ "الزمن القريب" أو "الراهن" على الوثائق الضرورية لفهم قضايا حساسة وفاصلة عرفتها المجتمعات العربية
وبعيدًا عن تلك "التوظيفات" لا يمكن إنكار ما قدّمه قطاع واسع من المؤرخين العرب من رؤية علمية موضوعية حول التاريخ السياسي والاجتماعي لأقطارهم أو للتاريخ العربي، إلّا أنّ ذلك لا ينفي تعدد الحواجز التي تقف عائقًا أمام عمل المؤرخين العرب فهي كثيرة ومتنوعة، ومنها خاصّة عدم توفر الفرصة أمام هؤلاء للاطلاع على الأرشيفات الوطنية العربية التي تمثّل أهم تلك العوائق على الإطلاق.
فعلى عكس ما هو سائد في الدول الغربية حيث الاطلاع على الأرشيفات المختلفة تنظمه قوانين وضوابط محددة، فإنّ الأرشيفات في أغلب الدول العربية، إن وجد أرشيف بالمعنى الحديث والتقني للكلمة، ظلّت حبيسة دهاليز الوزارات والإدارات المركزية التي تفرض رقابة على وثائقها السرية ولا تسمح بالتالي للمؤرخين والباحثين والمهتمين بالاطلاع عليها حتى بعد مرور الفترة الزمنية التي تحددها قوانين الأرشيف في الدول التي توجد فيها مثل تلك القوانين الضابطة والناظمة للعمل.
وقد لا يعثر مؤرّخ "الزمن القريب" أو "الراهن" في العالم العربي على الوثائق الضرورية لفهم قضايا حساسة وفاصلة عرفتها المجتمعات العربية لا زالت آثارها ومفاعيلها حاضرة في وجدان العرب وحياتهم، بل حتى على مستقبل الأجيال القادمة، وقد لا يعثر المهتمون بالأمر حتى بعد أجيال على ما يرغبون فيه من وثائق باعتبار السرية التي تطبّق على الوثائق ذات العلاقة بمثل هذه القضايا الدقيقة والحساسة ذات طابع أمني واستخباراتي وسيادي أحيانًا.
وهكذا ظلّت الكثير من الأحداث بدون تفسير منطقي أو إسناد معقول سواء تعلّق الأمر بالأسباب التي أدت إلى النكبة أو كارثة 1967 أو حيثيات حرب أكتوبر ومآلها وتداعياتها المختلفة سواء على مصر أو سوريا أو الفلسطينيين والعرب جميعًا أو في ما يتعلّق بأحداث مفصليّة ذات علاقة بالقيادات السياسية، لذلك يظل المؤرخ العربي المعاصر في انتظار ما تُفرج عنه أرشيفات الدول الغربية أو الدولة الصهيونية من وثائق ذات علاقة بتلك الأحداث حتى يتمكن من دراسة أسبابها ومعالجة مختلف المواقف، أو الاعتماد عليها لتأكيد ما كان ذكره أو كتبه المؤرخ أو الباحث باحتراز.
من الضروري الإفراج عن الأرشيفات حتى تتاح الفرصة للمؤرخين العرب لمراجعة علمية موضوعية لتاريخهم
ولا شكّ أنّ غياب المناخ الديمقراطي في أغلب البلدان العربية، والخوف من ردود الفعل الصادرة عن أجهزة الدولة الأمنية أو ذات العلاقة المباشرة بالمواضيع الحسّاسة، لا يشجّع الكثير من الفاعلين في الميدان السياسي أو الاجتماعي والاقتصادي أو الثقافي أو الدبلوماسي أو العسكري لكتابة مذكراتهم أو الإدلاء بآرائهم أو تقديم المعلومات والمعطيات أو بعض الوثائق الخاصة التي قد تتوفر لديهم بما قد يمكّن المؤرخين من كتابة التاريخ على أسُسٍ علمية وموضوعية. كما قد لا تسمح تلك الأوضاع بالتقاء الفاعلين بالمؤرخين للإدلاء بشهاداتهم عن الأحداث التي كانوا طرفًا فيها أو التي عاصروها عن قرب. وقد يُغيّب الموت بعض هؤلاء الفاعلين دون أن يدلوا بشهاداتهم حول الفترات التاريخية التي ساهموا في صنع أحداثها أو كانوا شاهدين على وقوعها مما يؤدي إلى خسارة كبيرة.
وبغض النظر عن كل ذلك، من الضروري الإفراج عن الأرشيفات في الدول العربية وإصدار قوانين شفافة حتى تتاح الفرصة للمؤرخين العرب لمراجعة علمية موضوعية لتاريخهم المعاصر والراهن، كما يتطلب من المؤرخين الانفتاح على المناهج التاريخية الجديدة والتوسّع في مقارباتهم وإشكالياتهم. أما بالنسبة إلى السلطة السياسية فعليها توفير الحدّ الأدنى من الحريات العامة والأكاديمية، وهو ما سيساهم حتمًا في تحرّر المعرفة التاريخية من سطوة السلطة السياسة الحاكمة لصياغة رؤية تاريخية جديدة.
(خاص "عروبة 22")