ثقافة

بين زيلينسكي والسنوار.. كيف يُراد لنا تسليم الغرب مفاتيح "تعريف الأشياء"؟

نقل أحد البرامج التلفزيونية الساخرة التي تقوم على عرض تناقضات الإعلاميين وتقتنص ما يثير الضحك والسخرية في أدائهم، مقطعين لافتين لأحد كبار الإعلاميين العرب، الذي يمتاز بتعدد مواهبه كإعلامي وكاتب ومثقف.

بين زيلينسكي والسنوار.. كيف يُراد لنا تسليم الغرب مفاتيح

الفيديو الأول يعرض رؤية تقدمية كبرى في مواجهة الاحتلال وعدم الاستسلام له مهما كانت التضحيات ومهما كانت قدرة القوة الغاشمة التي تواجهها، بل ويجب عدم تثبيط عزائم المقاومين بأحاديث عن خطأ تحديهم للقوة الأكبر، وما جناه هذا التحدي عليهم وعلى شعوبهم.

لكن الإعلامي الكبير لم يكن يقصد غزّة بحديثه هذا، ولا ما يواجهه الفلسطينيون من عدوان وحشي وإجرامي من الكيان الصهيوني يعبّر عن مرحلة أعنف وأقسى وأكثر وحشية من احتلال صارخ واضح استمرت مجازره لنحو 100 عام.

قصد الرجل أوكرانيا، متعجبًا من أنّ قطاعًا كبيرًا من الجمهور العربي يتعاطف مع روسيا رغم كونها الدولة المحتلة والغازية، ويتنمر على الأوكرانيين والأوكرانيات بدعوى أنهم "جابوه لنفسهم".

على النقيض تمامًا يعرض الفيديو الثاني للرجل نفسه حديثًا مغايرًا ومعاكسًا بنسبة 180 درجة يكاد يدين فيه المقاومة الفلسطينية، ويتساءل عن جدوى كل تلك التضحيات والدمار في غزّة، وعن مكاسب المقاومة المزعومة، مسترسلًا عن خطأ تحدي قوة كبرى مثل إسرائيل واستفزازها أو عدم التحسب لرد فعلها، ومُدينًا زعيم المقاومة الفلسطينية يحيى السنوار بوصفه مغامرًا لا يهتم إلا باسمه دون القضية.

لا فارق بين أوكرانيا وفلسطين وفق أحكام القانون الدولي ولا القيم الإنسانية العليا 

لا تعرف هل يريد الرجل من الشعوب أن تقاوم الاحتلال وتبذل الغالي والنفيس في مقاومته ولا تكترث بموازين القوى التي ليست في صالحها دومًا، أم يريد منها أن تستسلم تمامًا لإرادة المحتلين وسيناريوهاتهم، ولاستقرار منزوع الإنسانية والكرامة تحت الاحتلال كونه أفضل من خراب تجلبه المقاومة.

الأوكراني والفلسطيني ليسوا سواء إذن عند كثير من المثقفين والنخب العربية، التي تدور في فلك الغرب بقيمه المطاطة ومعاييره المزدوجة.

لا فارق بين أوكرانيا وفلسطين وفق أحكام القانون الدولي، ولا القيم الإنسانية العليا أو هكذا يجب أن يكون، غير أنّ الفارق في ذهنية هؤلاء هو الدعم الغربي، وبالنسبة لهم حيثما كان الدعم الغربي كان الموقف.

على عكس الجماهير العربية في الشوارع وعلى منصات التواصل الاجتماعي التي تؤيد روسيا فى حربها – وذلك أيضًا فيه إزدواج للمعايير – إلا أنها تفعل ذلك بمنطق مقاومة تزايد النفود والسيطرة الغربية على العالم، بإدراك أوسع أنّ أي إضعاف جديد لروسيا معناه تضاؤل الأمل في بناء مجتمع دولي متعدد الأقطاب، ومنح الأنظمة الغربية – غير الأمينة أخلاقيًا بالمرة – مزيدًا من القدرة على الاستفراد المطلق بالعالم.

أحد مظاهر هذا الاستفراد، ما رأيناه طوال 9 أشهر من الحرب العدوانية غير المسبوقة على قطاع غزة وسقوط عشرات الآلاف من المدنيين الشهداء غالبيتهم من النساء والأطفال ووقوف منظمات إنفاذ القانون الدولي عاجزة ومشلولة تحت تأثير هذا الانحطاط الأخلاقي الغربي.

لكن ما نراه انحطاطًا أخلاقيًا يراه بعض النخب عقلانية، والعقلانية لديهم هي تسليم الغرب مفاتيح "تعريف الأشياء"، فهو وحده الذي يحق له تعريف معنى الحرب العادلة أو الغاشمة، وهو الذي يمكن له أن يفسّر مبدأ حق الدفاع عن النفس، فيمنحه لمن يشاء ويحجبه عن من يشاء، فإذا شجع المقاومة الأوكرانية ومدّها بالمال والسلاح فهذا انتصار للأخلاق والقيم، وإذا فعل العكس وأدان المقاومة الفلسطينية ومدّ عدوها المعتدي بالمال والسلاح، لم يرَ في فعله نكوصًا عن تلك الأخلاق والقيم حتى وإن كان الفلسطينيون يُضربون بقنابله، فيما يتحدث ليل نهار عن مساعداته ومعوناته التي يحاول إدخالها للأبرياء المحاصرين.

إذا كانت الجماهير العربية تحركها فطرتها تجاه ما يجري في فلسطين وفي أوكرانيا – التي للمفارقة أيّد رئيسها زيلينسكي إسرائيل في حربها على غزّة بينما يشكو من عدوان الدب الروسي – فإنّ كثيرًا من النخب العربية تفتقر إلى "المازورة" الأخلاقية والفكرية الواحدة، وكأنها لا يمكنها أن تقف ضد كل أشكال الاحتلال وإهدار الكرامة وحرمان الشعوب من حقها في تقرير مصيرها والعيش الكريم بتجرد ودون تحيّز أو دوران في أفلاك، وسلّمت عقولها لشبكة كبرى من المصالح الغربية التي تدفعها لإعادة انتاج خطاباتها والانقلاب عليها ذاتها في الوقت نفسه.

الاختراق الفاضح للعقل العربي المثقف هو أحد أبرز ما فضحه العدوان الصهيوني الهمجي على غزّة

أحد هؤلاء يكيل الهجوم على السنوار باعتباره مغامرًا لا يهتم إلا بنفسه فيما ينقل الانترنت صورًا قبل سنوات من مكتبه يعلّق على حائطه صورًا لجيفارا وعبد الناصر، لكنه لم يحدثنا أنه أجرى مراجعات واكتشف من خلالها أنّ جيفارا كان مخادعًا أو إرهابيًا كما كان يصنّفه الغرب، أو أنّ عبد الناصر جلب الدمار لسكان بورسعيد والإسماعيلية والسويس لأنه استفز العدو في حرب الاستنزاف وكان الرد بقصف المدنيين في مدن القناة، ولم يقبل بحالة اللاسلم واللاحرب، ويعيش مسالمًا حامدًا لله على ضياع سيناء فحسب.

هذا الاختراق الفاضح للعقل العربي المثقف لدرجة محاولة البعض إقناع الأجيال الجديدة أنّ زيلينسكي مقاوم يستحق الدعم، والسنوار إرهابي يستحق الإدانة، هو أحد أبرز ما كشفه وفضحه العدوان الصهيوني الهمجي على غزّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن