التحولات والظواهر السياسية الكبرى من الصعب تقييم نتائجها وتداعياتها الإستراتيجية على المدى القصير، إذ غالبا ما تمتد هذه التداعيات لعقود تالية. يصدق ذلك على ثورة يونيو 2013. ويعود ذلك إلى عوامل عدة، أولها: طبيعة اللحظة القائمة في مصر والإقليم آنذاك، إذ أسست أحداث 2011، أو ما عرف بـ«الربيع العربي»، لمسار محدد في إقليم الشرق الأوسط، كان عنوانه الرئيسي إعادة هندسة الجغرافيا السياسية للإقليم، وبناء موازين قوى محددة من خلال تفكيك الجيوش الوطنية الرئيسية، وهو ما لم يكن ليحدث دون إزاحة الأنظمة السياسية الأساسية والمهمة بالإقليم، وتصعيد جماعات لا تؤمن بمفهوم الدولة الوطنية أو الحدود السياسية القائمة، وهو ما توفر بشكل مثالي في التنظيمات الدينية.
وقد سعت القوى الدولية التي وقفت وراء هذا المشروع إلى توفير الشروط اللازمة لنجاحه من خلال الترويج لنماذج سياسية محددة في الإقليم، فضلا عن الدعم المباشر لهذه التنظيمات. وقد استعدت هذه التنظيمات لهذا المشروع من خلال تطوير وبناء سردية دينية مغلوطة استهدفت خطف الدولة، والنيل من المؤسسات الوطنية، وتصدير فكرة «التمكين»، والخلط المشوه بين الدين والسياسة، وغيرها من المغالطات الكبيرة.
كان المعيار والشرط الرئيسي لنجاح هذا المشروع هو هيمنته على مصر، ليس فقط لمركزية الدولة المصرية بالإقليم وموقعها الجيوسياسي المهم، الأمر الذي كان يعني سهولة انتشار هذا المشروع بالإقليم عبر نظرية الدومينو، لكن أيضا لاعتبارات تتعلق بعمق وتجذر مفهوم وظاهرة الدولة الوطنية في مصر عبر التاريخ، فضلا عن مركزية مصر في معادلة التوازن الإستراتيجي بالإقليم بالمعنيين العسكري والديموغرافي.
هكذا، جاءت ثورة يونيو لتنقذ الإقليم من هذا المسار الكابوس، وتؤسس لمسار مغاير ينتصر لمفهوم وظاهرة الدولة الوطنية، والحفاظ على الأسس الرئيسة للتوازنات السياسية والجيوسياسية بالإقليم. لم يكن ذلك ليحدث دون توافر شروط محددة في ثورة يونيو، أولها: وجود مؤسسات وطنية صلبة، تمثلت في الجيش المصري والشرطة المصرية، اللذين وقفا حجر عثرة أمام هذا المشروع، فضلا عما أفرزته تداعيات أحداث يناير من ظهور قيادة كانت واعية منذ اللحظة الأولى بأبعاد هذا المشروع ومخاطره، وتنامي مراهنة صادقة من جانب المجتمع المصري ومختلف تياراته السياسية الوطنية على الجيش المصري وقيادته للتصدي لهذا المشروع الخطير، وهو ما أنتج في النهاية مشهد يونيو 2013 العظيم.
لكن الأهم هو ما دشنته ثورة يونيو من مسار مهم للدولة المصرية؛ إذ لم يقم هذا المسار على التخلص من إرث «فوضى الربيع» على المستوى المصري، لكنه أسس لمشروع تنموي وإصلاحي كبير رغم حالة الفوضى والارتباك القائمة بالإقليم، التي تعمقت بفعل تحولات أخرى لا تقل خطورة. لقد نجحت مصر بقيادتها السياسية في التأسيس لمسار يؤمن بحق مصر في بناء نموذجها التنموي الإصلاحي في ظل إقليم ما زال عصيا على الاستقرار، وعدم الانتظار لحين تغيير هذه البيئة الإقليمية، ثم جاءت التحولات الدولية خلال السنوات الخمس الأخيرة لتعمق هي الأخرى من حالة عدم الاستقرار تلك، وتزيد من تكاليف المشروع التنموي على المستوى الداخلي، وزيادة تكاليف حماية هذا المشروع. وما زالت الدولة المصرية وقيادتها السياسية تؤمن بحق الإقليم في التنمية والأمن، رغم إصرار العديد من الأطراف الإقليمية الأخرى على جر الإقليم إلى مزيد من الفوضى. لقد برهنت الفترة منذ يونيو 2013 وحتى الآن على نجاح الأمة المصرية في تجاوز العديد من التحديات والاختبارات الصعبة، التي تؤكد في التحليل الأخير إيمانها العميق بحقها في بناء مسارها الوطني الذي سينجح في لحظة ما مؤكدة في دفع الإقليم بعيدا عما أراده ــ وما زال ــ آخرون.
("الأهرام") المصرية