الزيارة بتوقيتها ورسائلها تمثّل دعمًا من المؤسسة التشريعية بجناحيها الجمهوري والديمقراطي لجرائم الحرب في غزّة، أو مكافأة عليها بالتصفيق وقوفًا!
إنه تناقض جوهري بين توجهات المؤسسة وتفاعلات المجتمع.
المؤسسة تدعم أشد السياسات يمينية وعنصرية وحروب الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي في غزّة المحاصرة. هذه مسألة حسابات واستراتيجيات ومصالح.
بالمقابل تتبنى قطاعات واسعة في المجتمع الأمريكي عدالة القضية الفلسطينية، كما تبدى ذلك في التظاهرات والاحتجاجات، التي عمت المدن الأمريكية وجامعات النخبة. وهذه مسألة ضمير ومستقبل.
مكافأة لنتنياهو أن يجد نفسه متحدثًا أمام الكونجرس قبيل استصدار مذكرة توقيف بحقه من المحكمة الجنائية الدولية
الجمهوريون تبنوا فكرة الزيارة لإحراج الرئيس الحالي جو بايدن قبيل الانتخابات الرئاسية، والديمقراطيون سايروها خشية خسارة اللوبي اليهودي تمويلًا ونفوذًا.
بالنسبة لنتنياهو فإنها مكافأة تفوق خياله، أن يجد نفسه متحدثًا أمام الكونجرس قبيل استصدار مذكرة توقيف بحقه من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
صعّد إعلاميًا ودعائيًا من انتقاداته لإدارة بايدن في خطاب مسجّل باللغة الإنجليزية، مبررًا فشله في إدارة الحرب بحجب شحنات أسلحة يحتاجها.
كان رد الفعل عاصفًا حيث اتهمته الإدارة بـ"نكران الجميل" والكذب.
في ردها أعلنت أنها أمدت إسرائيل بـ14 ألف قنبلة زنة ألفي رطل من 7 أكتوبر/تشرين الأول حتى الآن وذكّرته أنّ بايدن زار تل أبيب في الأيام الأولى من الحرب وفتح جسرًا جويًا لنقل الأسلحة والذخائر ووفر دعمًا عسكريًا واستخباراتيًا كما لم يفعل رئيس أمريكي من قبل.
حتى الآن لم يحسم بايدن المهزوز أمره إذا ما كان سوف يستقبل نتنياهو في البيت الأبيض أم يمتنع عن دعوته.
إذا استقبله فإنه قد يقضي على فرصه في اكتساب أصوات الجناح اليساري بالحزب الديمقراطي وداخل الأجيال الجديدة والجاليات العربية والإسلامية.
وإذا امتنع عن استقباله فإنها خسارة مؤكدة لدعم وتأييد اللوبي اليهودي.
حسب صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية أنه إذا لم يستقبل بايدن نتنياهو في البيت الأبيض فإنها صفعة على وجهه، لكنه لا يميل إلى ذلك الخيار!
إنه مأزق مستحكم استبق المناظرة الانتخابية الأولى، التي جمعته مع منافسة اللدود ترامب.
بدا باهتًا وغير صالح ذهنيًا وبدنيًا لتولي مهام الرئاسة لأربع سنوات مقبلة.
لم يكن ترامب مقنعًا بقدر ما كان بايدن سيئًا.
جرت دعوات واسعة لاستبداله بمرشح آخر حتى لا يخسر الديمقراطيون الانتخابات قبل أن تبدأ، لكنه يصر على المضي في الحملة الانتخابية إلى النهاية.
راوغ نتنياهو من جديد قاصدًا إرباك بايدن بإبداء استعداده لتقبل الخطة الأمريكية، التي نُسبت بالادعاء إليه!
إنه استهلاك وقت مقصود حتى يصعد حليفه القديم الموثوق ترامب إلى البيت الأبيض مجددًا.
بالوقت ذاته تجد أعداد كبيرة من المشرّعين الديمقراطيين نفسها داخل المأزق المستحكم، تحضر أم تغيب عن جلسة الكونجرس التي يتحدث أمامها نتنياهو؟!.
قبل تسع سنوات ألقى نتنياهو خطابًا مماثلًا أمام الكونجرس تغيّب عنه ما يقرب من 60 مشرّعًا ديمقراطيًا.
كان ذلك في عهد باراك أوباما.
ماذا قد يحدث الآن؟
ما حجم الاحتجاجات المنتظرة أمام الكونجرس احتجاجًا على تلك الزيارة؟
وما حجم الدور الذي يلعبه اليهود الأمريكيون، خاصة منظمة "أصوات يهودية"، التي تصدّرت الاحتجاجات أمام الكونجرس في الأيام الأولى من الحرب على غزّة؟
بقدرٍ موازٍ تدخل الزيارة نفسها في المساجلات الداخلية الإسرائيلية. سؤال مستقبل نتنياهو يشغل الجانب الأكبر من المشاحنات والصدامات والمخاوف من أن تكون إسرائيل على حافة خطر وجودي داهم بسبب سياساته وتغليبه لمصالحه السياسية والشخصية.
حسب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، فإنّ الصهيونية نفسها تترنح فيما نتنياهو يناور ويراوغ للبقاء على رأس السلطة.
لم يعترض أحد في العالم العربي على الزيارة وأهدافها كأنها لا تعنينا
لا تصورات لديه لليوم التالي للحرب، ويبدو مستعدًا لتوسيع الاشتباكات إلى حرب على لبنان تفضي إلى حرب إقليمية مدمّرة فيما جيشه يعاني ويكابد في مستنقع غزّة.
في إشارة إلى عمق الأزمة الداخلية الإسرائيلية دعت نخبة سياسية وأمنية وأكاديمية في مقال نشرته صحيفة الـ"نيويورك تايمز" الأمريكية النافذة إلى إلغاء الزيارة.
من بين الموقّعين: أيهود باراك رئيس الحكومة الأسبق، وتامير باردو رئيس "الموساد" الأسبق، وديفيد هاريل رئيس الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات... "إنّ ظهور نتنياهو في واشنطن لن يمثّل دولة إسرائيل ومواطنيها وسيكون بمثابة مكافأة له على سلوكه الفاضح والمدمّر اتجاه بلادنا.. إنه يدفع إسرائيل إلى الهاوية بسرعة مثيرة للقلق".
إنه اعتراض إسرائيلي واضح وقاطع على زيارة يُنظر إليها على أنها مكافأة لنتنياهو.
لم يعترض أحد في العالم العربي على الزيارة وأهدافها، كأنها لا تعنينا رغم أننا سوف نسدد فواتير باهظة للتقاعس الفاضح في الدفاع عن أعز قضايانا ودمنا المراق.
الأسوأ أنّ هناك من هو مستعد، بالتطبيع المجاني ومشروعات التعاون الإقليمي والأمني والهجوم على المقاومة، لمنح أشد مجرمي الحرب صكوك براءة.
(خاص "عروبة 22")