قد يلتقي قريباً الرؤساء الثلاثة؛ إردوغان ونظيرَاه الروسي بوتين والسوري بشار الأسد، الموعد غير محدّد بعد، تلميحات الرئيس التركي لهذا اللقاء المنتظر جاءت مقرونة بالتأكيد على أن حماية الأمن القومي التركي أولوية قصوى في ظل تغييرات كبرى تحدث في الإقليم، وتَبلوُر نظرة تركية جديدة لدور سوريا في تلك التغييرات المتوقّعة. الأمران في حد ذاتهما جزء مهم من تلك التغييرات الجارية لشرق أوسط مختلف، غير محدّد المعالم بعد، وهما أيضاً تجسيد لإدراك تركي جديد لبناء تفاهمات إقليمية مدعومة دولياً إن أمكن، لا سيما من واشنطن، تُعين على محاصرة العديد من بؤر التهديدات الراهنة والمحتملة معاً.
مبدئياً ليست هناك تحفّظات تركية كبرى تحُول دون لقاء إردوغان ونظيره بشار الأسد، كما لم تَعُد هناك أولوية تركية في الاعتماد على وكلاء تم صنعهم في السنوات العشر الماضية، لا سيما «الجيش السوري الحر»، و«حركة تحرير الشام»، ومثيلاتهما من المنظمات الدينية المسلّحة التي رعتها المخابرات التركية، وتحدّد لها في السابق دور رئيسي في إسقاط النظام السوري، لكنها – أي تلك التكوينات الهجينة - لم تفلح، بالرغم من دعم الجيش التركي وتوغلاته المختلفة منذ عام 2019، إلا في قَضْم مساحات من أراضي شمال سوريا والسيطرة عليها، ولكن بدون أفق سياسي موثوق باعتبارها «معارضة» لديها مشروع مقبول من كافة الأطراف ذات الصلة بمستقبل سوريا ودورها الإقليمي.
كما لم تفلح تلك التكوينات الهجينة في الحد من نفوذ «وحدات حماية الشعب الكردي» و«قسد» المدعومَين من واشنطن، وطموحاتهما في تشكيل حكم ذاتي لأكراد سوريا، يرنو إجمالاً إلى وضع لبنة رئيسية في نظام سوري مستقبلي جديد يعتمد الفيدرالية، تنظر إليها أنقرة مشروعاً انفصالياً لا يهدّد سوريا وحسب، بل تركيا ذاتها، ما شكّل مبرراً قوياً لاعتماد سياسة جديدة تجاه سوريا الأسد، فضلاً عن التنسيق المكثّف مع موسكو لمحاصرة تلك التهديدات، التي آتَت أكُلَها في تأجيل الانتخابات المحلية التي عزمت «قسد» على إجرائها في سبع مناطق تسيطر عليها، إلى أغسطس المقبل، دون أن يكون الأمر مؤكداً بعد.
الفشل في تحقيق هدفَي التغيير القسري للنظام في سوريا، والحد من نفوذ «قسد»، مقرون بارتفاع تكلفة الاعتماد على وكلاء لم يَعُد مضموناً ولاؤهم الكامل لتركيا، كما تجسّد في المظاهرات المناهضة للوجود التركي في الشمال السوري وإهانة العلم التركي، يُعيد الاعتبار إلى خبرة إنسانية موثوقة، يتجاهلها البعض أحياناً؛ إذ أياً كان حجم التدخل في شأن داخلي لدولة أخرى، وما يسبّبه من مشكلات وتعقيدات، ففي النهاية يتحقّق فشل ذريع، علاجه الوحيد الالتزام بعدم التدخل في شئون الآخرين، لا سيما إن كانوا جيراناً يستحيل التخلص من وجودهم، أو فرض وصاية عليهم بأي شكل كان.
الجديد في المنظور التركي تجاه سوريا يتمثل في قبولها بنظامها الراهن جاراً يُعتمَد عليه في تحقيق أهداف مشتركة، مثل مواجهة الإرهاب، الأمر الذي يعتبره البلدان من حيث المبدأ هدفاً مركزياً وقاسماً مشتركاً يمكن البناء عليه، مع الأخذ في الاعتبار أن ثمة تباينات جزئية في تكييف مَن هم الإرهابيون الواجب اقتلاعهم عبر تعاون مشترك وجهد منسق؛ فدمشق ترى الجماعات المسلحة الموالية لأنقرة جماعات إرهابية يجب التخلص منها، بينما ترى أنقرة أن الأولوية هي القضاء على طموحات «قسد»، بوصفها امتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني» المصنّف إرهابياً وفق المعايير التركية.
ويمتد الإدراك التركي إلى إمكانية التعاون المباشر مع دمشق، وتنسيق روسي، لمنع الخطط الخاصة بتمكين الحكم الذاتي لمناطق الأكراد السوريين؛ لوقف طموحات الانفصال عن سوريا ولو بعد حين، وما سيحمله من تأثيرات معنوية وسياسية على الداخل التركي ذاته، تثير القلق على وحدة تركيا ذاتها، وهو ما تقبله دمشق مبدئياً وبشدة.
من طموحات تركيا إردوغان البارزة التوصل إلى حل عملي قابل للتطبيق، يوفر للاجئين السوريين لديها، وهم في حدود مليونَي لاجئ، فرصة العودة الطوعية إلى مناطقهم المختلفة، بعد توفير بيئة آمنة، لا يمكن تشكيلها إلا من خلال تعاون وتنسيق شامل مع كل من سوريا وروسيا، وكثيراً ما نُوقِش هذا الطموح بين الرئيسين إردوغان وبوتين.
وتطمح أنقرة حالياً إلى أن تشتبك الحكومة السورية مع هذا الطموح وفق منظور تعاوني محدّد، يخفّف الأعباء الجسام على الاقتصاد التركي من ناحية، وعلى وحدة وتماسك المجتمع التركي ذاته، الذي يواجه تحديات لم تكن متصوَّرة تتعلق بالموقف من «الأجانب»؛ سُيّاحاً كانوا، أم مقيمين، أم لاجئين، ويضع حداً لانتقادات الأحزاب القومية المناهضة لسياسة حكومة العدالة والتنمية بشأن سوريا ولاجئيها. دمشق لا تمانع مبدئياً في التعاون مع أنقرة، بشأن الأكراد السوريين، ولكن لديها محدّدات؛ أبرزها احترام تركيا لوحدة ترابها وسيادتها الكاملة، وهو ما يوافق عليه الرئيس إردوغان مبدئياً، أما التخلي عن دعم الجيش السوري الحر ونظرائه في شمال البلاد، وخروج القوات التركية من الأراضي السورية، فهما محل جدل، تجاور تلك التي تسيطر عليها الأكراد بالحماية الأميركية المباشرة.
وإلى أن يُحسم الأمر، سيظل الإرث السوري ضاغطاً على الرئيس إردوغان وحكومته.
(الشرق الأوسط)