اقتصاد ومال

الاقتصاد الفضي (2/2)الانتقال الديموغرافي والتحوّلات المجتمعية في العالم العربي عبء أم فرصة؟

ماذا أعدت الدول العربية لمسنيها؟ سؤال يُؤرق عددًا من المواطنين في مختلف الدول العربية في ظِل الارتفاع المتسارع لنسب المسنين في الهرم الديمغرافي، حيث من المرتقب أن تتراوح خلال العقدين المقبلين بين 15% و30% من مجموع سكان المنطقة العربية.

الاقتصاد الفضي (2/2)
الانتقال الديموغرافي والتحوّلات المجتمعية في العالم العربي عبء أم فرصة؟

إنّ النجاح في تنزيل السياسات الإصلاحية الرامية لتطوير منظومة الحماية الاجتماعية في معظم الدول العربية، رهينٌ بمدى قدرتها على تأمين الاستدامة المالية دون الاخلال بتوازن الموازنة، وكذلك بقدرتها على ضبط وتيرة إصلاح عدد من القطاعات الضرورية لعمل المنظومة، في مقدمتها قطاع الصحة الذي يتطلب مراجعة حقيقة لنصوصه التشريعية، وتحديثًا لبنيته التحتية وتطويرًا لطرائق تدبيره واستغلاله وتكوين الأطر والعاملين به، حتى يتمكّن من مواجهة التحديات المستقبلية والاضطلاع بأدواره في تقديم الرعاية الطويلة الأمد للمسنين، وهو ما يتطلب استثمارات قد تتجاوز قدرة الفاعل الحكومي وتستدعي تدخل الفاعلين الخواص والمجتمع المدني، وِفق مقاربة تشاركية وتعريفٍ دقيقٍ للأدوار وتنسيق سلس يضمن تحقيق الأهداف الاجتماعية وكذلك الاقتصادية، ويُّمَّكِنُ من تحويل الانتقال الديمغرافي من عبء مشترك إلى فُرصٍ للتنمية وتطوير الاقتصاد.

الانتقال الديموغرافي وشيخوخة المجتمع قد تنجم عنه مخاطر اقتصادية عديدة

وتقتضي مسالة العبور نحو اقتصاد الرعاية أو الاقتصاد الفضي (Silver Économie) تعزيز القدرة الشرائية للأسر والمسنين على السواء، وهو ما قد يطرح تساؤلات عديدة في ظل مؤشرات الفقر والهشاشة المرتفعة في العالم العربي، التي تأخذ منحنيات أكثر حدة حين يتعلق الأمر بالشيوخ والنساء، وهو أمرٌ يقتضي وضع سياسات تتكامل وتلتقي فيما بينها على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب فتح المجال أمام المقاولات الخاصة من أجل الاستثمار في القطاع الصحي والاجتماعي وتقاسم أعباء الرعاية مع الأسرة والدولة، وتمكين المجتمع المدني من آليات العمل للاضطلاع بدوره في منظومة الرعاية.

إنّه المعطى نفسه الذي قد يساعد على احتواء نسب البطالة عبر تعزيز القدرة على إحداث مناصب شغل في قطاعات متعددة (الصحة ــ مهن القرب والرعاية ــ السكن ــ الأمن ــ الخدمات عن بعد ــ الترفيه ...)، ستكون بديلًا حقيقيًا عن فقدانها في قطاعات أخرى نتيجة التطور التكنولوجي وظهور الذكاء الاصطناعي؛ هذه التوجهات قد تساهم أيضًا في تعزيز استدامة تمويل هذه الأنظمة عبر توسيع قاعدة المنخرطين، وتحفيز الدورة الاقتصادية عن طريق تشكيل احتياطات مالية إضافية وضخها في قطاعات مختلفة، إلى جانب تعزيز القدرة الشرائية والطلب الداخلي.

من المرتقب أن يُشكّل الاقتصاد الفضي واقتصاد الرعاية أرضًا خصبة للاستثمار خلال العقود المقبلة في عدد من الدول العربية، فمن المنتظر أن تبلغ معاملات هذا الاقتصاد في المغرب خلال العقود الثلاثة المقبلة ما يقارب 64 مليار دولار، حسب توقعات وزارة الاقتصاد والمالية، في حين ستبلغ هذه المعاملات في دول الاتحاد الأوروبي خلال سنة 2025 ما قيمته 5700 مليار أورو، كما أنّه سيمكّن دوليًا من إحداث حوالى 88 مليون منصب شغل على مستوى الاقتصاد الفضي و280 مليون منصب شغل على مستوى اقتصاد الرعاية بحلول عام 2030، وذلك حسب مجموعة من المعطيات الاستشرافية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، وهو ما يعني طلبًا متزايدًا على اليد العاملة المؤهلة، سواء في العالم العربي أو في بقية دول العالم، الأمر الذي سيشعل فتيل المنافسة بينها حول استقطابها، وهو ما حدا بعدد من الدول العربية إلى تعزيز جاذبية العمل في عدد من القطاعات الاجتماعية وتحيين منظوماتها التشريعية، بُغية الإبقاء على كفاءاتها بعيدًا عن إغراءات الهجرة إلى الدول الغربية، خاصّة الكفاءات العاملة في القطاع الصحي.

ضرورة تكثيف العمل العربي المشترك لكون معظم الدول العربية تتقاسم الخصوصيات نفسها

لا يفوتنا التذكير، بأنّ الانتقال الديموغرافي وشيخوخة المجتمع قد تنجم عنه مخاطر اقتصادية عديدة، يجب أن تؤخذ بعين الحسبان، خاصة تلك المرتبطة كما أسلفنا الذكر بعجز الموازنة عن مواكبة متطلبات الاصلاح، إلى جانب المخاطر المتعلقة بتراجع الناتج الإجمالي الخام والنمو الاقتصادي جراء انخفاض عدد السكان النشيطين، وتحوّل جزء كبير منهم من الإنتاج إلى الاستهلاك، وندرة العاملين المؤهلين في ظل استمرار هجرة الكفاءات، وهو ما سيُفضي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وتراجع الطلب الداخلي واهتزاز الجاذبية الاستثمارية للبلدان العربية، ويقلص فرص استفادتها من ثمار وعائدات الاقتصاد الفضي واقتصاد الرعاية، وهو ما يستدعي ضرورة تكثيف العمل العربي المشترك، بالنظر لكون معظم الدول العربية تتقاسم الخصوصيات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية نفسها، وذلك عبر وضع تصورات مشتركة لمواجهة هذه التحديات، إلى جانب إحداث مؤسّسات عربية تسهر على تنزيل هذه التصورات وتعبئة الموارد المالية اللازمة وتشجيع الاستثمارات العربية البينية.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن