الثّـقـافـةُ هنـا، مثـلـهـا مثـل مَـصَـبّـات الميـاه، بـنـيـةٌ تـتـولّـد مـن تكـويـنٍ مـركَّـب غيـرِ بسيـط (أي غير واحِـديِّ التّـكـوين). لذلك لا وجـود لثـقـافـةٍ قائـمـةٍ بـذاتـها ومسـتـقـلّـةِ الكيـنـونـة، أي مكـتـفـيـة بـذاتـها ومستـغـنيـة - في التّـكـويـن - عـن غيـرٍ يـقـع خـارجـها مـن الثّـقافـات. ليس زعْـمـاً هـذا الزّعـمُ باكـتـفـاء الثّـقـافـة الذّاتـيّ، إذن، بـل هـو وهْـمٌ يـقـود الوعـيَ إلى إخـطاء إدراكِ معـنـى الثّـقـافـة، على وجـه التّحـقـيـق، وتـبـيُّـن نظامِ تـكـويـنِـها واتّـصالِـها بـبعـديْـن لا يـنـفـصـلان فيـها: اجتـماعـيّ وإنـسـانـيّ.
يستحيل إخضاع أيِّ ثقافة لفحص حمضها النّوويّ قصد بيان أصولها "الصّافيّة"
الثّـقـافـةُ واحـدةٌ مـن حيـث هـي بنـيـة مـتـكـوِّنـة تـنـتـمـي إلى المجـتـمـع؛ وهـي - في الوقـتِ عـيـنِـه - ثـقـافـاتٌ مـن حيث هـي محـصَّـلَـةٌ تـركـيـبـيّـة لـروافـدَ عـدّة نـابـعـة من منظوماتٍ ثـقافـيّـة عـدّة. لذلك ليس مـن بـدايـةٍ صِـفْـريّـة لأيّ ثـقـافـةٍ، ولا مـن كيـنـونـةٍ نـاجـزةٍ ونهائـيّـةِ التّـكـويـن والهـيـأة. ولا يـغـيّـر مـن هـذه الحـقيـقـة أنّ الثّـقـافـة تـعـبيـرٌ عـن كيـنـونـةٍ اجـتـماعيّـة: عـن مجتـمع ومنظومة قـيـمٍ وتاريخٍ وذهـنـيّـةٍ ومـا شـاكل؛ ذلك أنّـها لا تسـتـقـي مـواردَهـا مـن مجتـمـعـها فحسـب - على فـرض أنّـه منـغـلقٌ على ذاته منـفـصـلٌ عـن العالم! - بـل مـن ثـقـافـات عـدّة: سابـقـة ومُـجَـايِـلَـة تـدخُـل قِـيَـمُـهـا في تكـويـنـها كـثـقـافـةٍ ذاتِ بنـيـة جـديـدة خاصّـة أو، بلـغـة هيـغـل الجـدليّـة، كـتـركيـبٍ ثـقـافـيٍّ جـديـد.
معنـى ذلك أنّـه يُـوجـد في جـوْف كـلِّ ثـقـافـةٍ ما ليس لـه حـصـرٌ مـن الثّـقـافـات الأخـرى، وعلى نحـوٍ يـمـتـنـع معـه - بـل يـسـتحـيـل - إخـضـاعُ أيِّ ثـقـافـةٍ لـفـحـصِ حِـمْـضِـها النّـوويّ قـصـد بـيـان أصـولـها "الصّـافـيّـة"؛ إذِ الغالـبُ على الثّـقـافـات الاختـلاطُ والتّـمازُجُ شـأن الدّمـاء والأنسـاب والأصـلاب بحيث يلـتـغـي معـه كـلُّ زعـمٍ بالـنِّـصـاب الواحـد.
قـد تـتـفـاعـل المجتـمـعـاتُ بيـن بعـضـها أنـماطًا مـن التّـفاعـل مخـتـلـفـةَ الطّـبيـعـة سـواءٌ كـانـت متـجاورةً أو على مبْـعَـدة. وهـكـذا قـد يـتّـخـذ التّـفاعـل أشـكـالًا مـن التّـقارُب يبلغ حـدّ الانـدمـاج: مثـل العـمـل والإقـامـة والمصاهـرة؛ وقـد يُـكْـتَـفَـى فيه بـتـبـادُل المنـافـع عـبـر التّـجارات ومـبادلات القـيـم الماديّـة؛ وقـد يـتّـخذ صـورًا عـدائـيّـة ربّـما تـمَـظْـهـرت في نزاعـات أو حـروب أو حصارات... إلخ، غيـر أنّ أعلـى صُـوَر ذلك التّـفاعُـل هـي تلك التي تـتـحـقّـق مـن خـلال التّـثاقُـف أو التّـبادل الثّـقـافـيّ بيـن ثـقـافـتيـن أو أكـثر. في مثـل هـذه الصّـلـة، تـنـخـرط الثّـقـافـات في عـملـيّـات متتاليـة مـن تبـادُل القيـم الثّـقـافـيّـة بيـنـها فـتـأخـذ الواحـدةُ فيـها مـن الأخـرى وتُـقـدِّم لغـيرها، لـيـدخُـل المستـعَـارُ والمسـتَـفَـادُ، مـع كـرور الزّمـن، في جمـلـة الموارد الذّاتـيّـة لـكـلّ ثـقـافـةٍ من هاتيك الثّـقـافات المتفاعلة. لذلك، بـمـقـدار ما يـنْـوضـع التّـثـاقـفُ في ميـزان القـيمـة بوصـفـه أعـلى شكـلٍ - وأخـصـب شكـلٍ - للـتّـفاعُـل والتّـبادل بيـن المجـتمـعـات أو بيـن الأمـم، يـنْـماز- في الوقـت عـيـنِـه - بـمـا هـو التّـفاعُـل الوحيـدُ الأَبـعـدُ أثـرًا والأَبْـقـى والأرسـخُ مـن كـلّ التّـفاعـلات الأخـرى التي ربّما تـتـبـدَّد آثـارُهـا مع الزّمـن.
من الالتقاء بين ثقافاتٍ قوميّة يُولَد الإنسانيُّ بما هو مشتَرَك
إذا كـانتِ الثّـقـافـات مـرايـا مجـتـمـعـاتـها التي تـنـعـكـس فيـها قيـمُـها الجـمـعيّـة، فـإنّ هـذا البـعـد القـومـيّ للـثّـقـافـة سـرعـان ما يخْـرُج مـن ذاتـيّـتـه الخاصّـة لـيـلـتـقـيَ غيـرَه في نـقـطـةٍ مّـا مـن المسـار. وليس غـيـرُه ذاك إلا أبـعـادًا قـوميّـة أخـرى لـثـقافـاتٍ أخـرى يصـطـدم بـهـا اصـطـدامَ اكـتـشـافٍ، مع مـا يـتـولّـد منـه مـن دهـشـةٍ، أو إعـجـاب، أو استـحـسـان، ثـمّ فـضـولٍ معـرفـيّ فحـوارٌ - مُـضْـمَـر أو مـعـلَـن - وتـبادُل رمـزيّ. مـن هـذا الالتـقـاء بيـن ثـقـافـاتٍ قـوميّـة يُـولَـد الإنـسـانـيُّ بـما هـو مشـتَـرَك، وبـما هـو تـيّـارٌ عـابـرٌ للخصوصيّـات القـوميّـة. أمّـا حاضـنـة هـذا الوليـد (= الإنـسـانـيّ)، بـل قـابـلـتُـه، فـهـي عمليّـة التّـثـاقُـف.
(خاص "عروبة 22")