ماذا تعكس طريقة اختياره السينمائية الهوليودية من خصائص المجتمع الأمريكي؟ في ختام أربعة أيام من الاجتماعات والمناقشات تابعت يوم الخميس الماضي مباشرة ولساعات جلسة الحزب الجمهوري الأمريكي لترشيح ترامب كرئيس قادم للدولة الأعظم. على العكس تماما فما يحدث عندنا أو في أوروبا ومعظم أنحاء العالم، كان المؤتمر ودون أدنى مبالغة مهرجانا مسرحيا ضخما بما فيه مطربو الراب بالجاكيتات الجلدية الشبابية يُغنون ويرقصون بعنف وتنطلق في القاعة المفتوحة نحو 80 ألف بالونة ضخمة وسط القفز والصياح، ومع الحيل الضوئية يصعد ترامب كنجم تلفزيوني على المسرح ليلقى خطاب قبوله الترشيح. وبالرغم من سلاسة الإلقاء، كان الخطاب طويلا أكثر من اللازم، في الحقيقة الأطول في مثل هذه المناسبة في تاريخ الولايات المتحدة: 95 دقيقة بدلا من أن يكون ساعة واحدة، أي أكثر بنحو 50% عن الوقت المخصص.
كعادة ترامب، كان إلقاؤه سلسا وسريع الإيقاع، ولكن غير متماسك دون أي جديد في مضمونه، وركز أكثر من اللازم على تفاصيل محاولة اغتياله لاستجداء تعاطف الحضور، ونجح.
ستكون صورة الرئيس الأمريكي السابق و(القادم)، ترامب ووجهه ملطخ بالدماء صورة العام، وربما لأعوام قادمة. رصاصة الشاب العشريني توماس كوك التي أصابت ترامب في أذنه هي غاية في البساطة، ولكن تأثيرها السياسي أضعاف أضعاف هذه الإصابة، بحيث شكك البعض في أن إطلاق النار هذا ما هو إلا تمثيلية لتدعيم مكانة ترامب في السباق الرئاسي.
وفعلا يكسب ترامب الكثير جدا من محاولة اغتياله هذه، فبدلا من استمرار صورته كغشاش، كاذب، مغتصب النساء، دكتاتور وفاسد، أصبحت الصورة المسيطرة التي يتم ترويجها أنه ضحية بل شهيد لأعمال الظلم والعنف لمن يحاولون النيل من «هذا القائد العظيم» الذي لا يكل عن العمل من أجل أن تُصبح أمريكا «عظيمة مرة أخرى»، بالطريقة العامية نقول إن حادث محاولة الاغتيال هذه «جاتله على الجاهز» لتزيد من عدد مؤيديه وتُعَظِّم فرص نجاحه ليكون الرئيس القادم.
ما يجب أن نتذكره مع ذلك ـ هو أن محاولة الاغتيال هذه ليست استثنائية، بل هي جزء لا يتجزأ من العنف المنتشر في المجتمع الأمريكي على مر التاريخ، مثلا:
1 ـ انتهت حياة أربعة رؤساء سابقين بالاغتيال، كان أحدثهم جون كنيدي في نوفمبر 1963، وعندما قام شقيقه روبرت كنيدي بترشيح نفسه، تم اغتياله أيضا في 1963، ونجا رئيسان آخران من الاغتيال: فورد في السبعينيات وريجان في الثمانينيات من القرن الماضي.
وتعكس هذه الحالات ليس فقط العنف المتأصل في المجتمع الأمريكي بل قبوله أيضا. يتذكر معظمنا أفلام الكاوبوي، وكيف كان البطل الشعبي يحمل مسدسه دائما ويُسرع في استخدامه، والكل تقريبا يقوم بتقليده. كما أن منظمات عنصرية مثل الكلوكسي كلان قامت على استخدام العنف المسلح يوميا ضد الأمريكيين السود حتى زاد تطرفها، وتم إلغاؤها في ستينيات القرن الماضي، ولكن ثقافة العنف العنصري لا تزال مستمرة في الجنوب الأمريكي.
2 ـ الاستقطاب السياسي الحاد الذي يعانيه النظام الأمريكي حاليا يُساعد في الحقيقة على انتشار هذا العنف، بل يجعل له شرعية على أنه الوسيلة الأنجح في الحلم السياسي، ولنتذكر أنه عندما فاز بايدن في الانتخابات الأخيرة، لم يقبل ترامب النتيجة واتهم منافسه بالتزوير وأرسل معاونيه في 6 يناير 2021 في هجوم مسلح على الكونجرس لمنع نائبه من التصديق على نتائج الانتخابات، بل غزو مكاتب بعض أعضاء الكونجرس وتدمير محتوياتها، ورأى العديد من الأمريكيين أن الحدث العنيف ما هو إلا هجوم مسلح على الديمقراطية ـ الأمريكية نفسها عن طريق الاقتحام المسلح لتدمير أهم رموزها: مبنى الكونجرس وأعضائه من ممثلي الشعب. ومن المفارقات، وحتى النفاق، أن ترامب ومؤيديه يُدينون محاولة اغتياله، ولكنهم يعترضون على المحاولات المتزايدة حاليا لتقييد حمل السلاح على أساس أنها تتعارض مع المادة الثانية من الدستور وتُشكل قيدا على حرية المواطن، ولا غرابة إذن أن أكبر جماعة ضغط في أمريكا ـ وهي لوبي حرية حمل السلاح وتسويقه ـ تُؤيد ترامب وتقوم بتمويل حملته.
تُشير استطلاعات الرأي المتعددة إلى أنه لو تمت الانتخابات الرئاسية حاليا، سيفوز ترامب وبسهولة، خاصة مع المشكلات التي يواجهها منافسه بايدن، وكذلك انقسامات حزبه الديمقراطي. تستعد أوروبا وأجزاء أخرى لهذا الاحتمال. فلنستعد نحن أيضا.
(الأهرام المصرية)