ورغم وجود قراءات متعددة للنظام السياسي الأمريكي ولطبيعة الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين، إلا أنّ القراءة الأكثر شيوعًا هي التي تقول إنّ "الجميع مثل بعضهم" وكلاهما أسوأ من بعض، وهي قراءة مفهومة في ظل انحياز الحزبين -بدرجات مختلفة - لإسرائيل.
صحيح أنّ هناك من يعتبر الفروقات بينهما مؤكدة حتى لو كانت في درجة السوء، وهو ما يجعلنا نقول إنّ ترامب أسوأ من بايدن، وأنّ دعم إسرائيل من ثوابت النظام السياسي الأمريكي وأنّ الخلاف بين الحزبين هو في تفاصيل السياسات وليس جوهرها خاصة أنّ الجناح التقدمي وحلفاءه في الحزب الديمقراطي والذي يطالب بإنهاء الاحتلال ويدعم حق الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة، لا زال بعيدًا عن الوصول للسلطة.
متابعة الفروقات في توجّهات الحزبين الديمقراطي والجمهوري تساعد الجانب العربي للاستفادة منها
ومن المهم التأكيد أنّ التعامل مع الفروقات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لا بد أن يرى نظرة المواطن الأمريكي لأنّ الناخب يختار مرشحيه على ضوء تعاملهم مع المشكلات الأمريكية وليس العربية أو قضايا السياسة الخارجية، ولذا يصبح من المهم الاهتمام بتفاصيل الفروقات بين الحزبين لفهم طبيعة النظام السياسي الأمريكي حتى لو كانت الحصيلة النهائية لسياساتهما لا تختلف كثيرًا في جوهرها.
أهمية متابعة الفروقات في توجّهات الحزبين أنها ستساعد الجانب العربي والفلسطيني للاستفادة منها في حال عظم من تأثيره وفاعليته على الساحة الدولية ومن قدراته وأوراق ضغطه المعطلة.
والحقيقة أنّ هناك فروقات بين أي مرشح ديمقراطي وترامب، فهو يؤيد إسرائيل بشكل مطلق ويعترض على الانتقادات الخجولة لإدارة بايدن في مواجهه حكومة نتنياهو، كما طالب ترامب أكثر من مرة إسرائيل أن تتم عملها في غزّة وأن ترسل لها أمريكا ما تريد من السلاح أي أنه يعتبر أنّ قتل الأطفال والنساء ليس أمرًا مهمًا ولا يثير أي اعتراضات من جانبه، ولم يتحدث عن هدنة أو وقف إطلاق نار مؤقت ورفض قرارات محكمة العدل الدولية بشكل فج.
الحقيقة أنّ دونالد ترامب لا يمثّل فقط توجهًا ماليًا وسياسيًا مختلفًا عليه في داخل أمريكا وخارجها إنما أيضًا أو أساسًا نمطًا في الإدارة والحكم سبق وأن لفظه أغلب الشعب الأمريكي، صحيح أنه جزء من انقسام عالمي بين قوى ليبرالية ومحافظة، وأنّ ترامب عبّر عن الاتجاه الأكثر تطرفًا في داخل الاتجاه المحافظ لأنه طوال الفترة الماضية خسر جانبًا من حلفائه وهاجمه بشدة كثير من المسؤولين الذين عملوا معه، ودخل في صراع مع بعض أركان فريقه الرئاسي ووزراء في حكومته، والعديد من المسؤولين الكبار، وقطاعات من مؤسسات الدولة وخاصة القضاء والمخابرات ووزارة الخارجية وغيرها.
لقد دخل ترامب في معارك شخصية ومزاجية لم يحترم فيها أي تقاليد أو أعراف سواء مع رئيسة البرلمان السابقة نانسي بيلوسي أو مع شخصيات نافذة في البيت الأبيض، كما سبق أن شتم المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالية، وشتم وزير العدل السابق الذي يفترض أيضًا أنه عيّنه، لأنهم جميعًا أداروا مؤسساتهم وفق قواعد وتقاليد مهنية لا يعرفها ترامب.
نموذج ترامب لم يكن هو اليميني المحافظ الذي سبق وحكم أمريكا، إنما هو نمط فج في الحكم والإدارة فيه كثير من الكذب وتخريب المؤسسات وكراهية العلم، والعداء للصحافة، ويبدو الأمر متناقضًا تمامًا حين نجد بعض من يقولون إنهم من مؤيدي الدولة في عالمنا العربي يدافعون عن ترامب دون أي تحفظ، ويتناسون أن جزءًا كبيرًا من أزمته وأحد أسباب خساراته هو عشوائية الإدارة وكراهيته وإهانته لمؤسسات الدولة بتهميشها والإساءة لكثير من قادتها الأكفاء.
التغيير ليس مطلوبًا ولا منتظرًا أن تقوم به أي إدارة أمريكية لأنه يخصّ العرب أولًا
لم يعد العالم ولا الشعوب الحية على استعداد أن يقبل حكم رئيس يؤيد توجهاته السياسية - اشتراكيًا أو ليبراليًا أو يمينيًا محافظًا - ويتجاهل عشوائيته في الإدارة وسجله الجنائي وإدانته في قضايا احتيال، لأنّ تجاهل هذه الجوانب سيؤدي إلى تقويض الأُسُس التي قام عليها النظام السياسي الأمريكي وأي نظام في العالم يرغب في التقدم.
تجربة ترامب السابقة في الحكم وتجربته المحتملة في حكم جديد، تقول إنه سيكون أسوأ من بايدن وبالقطع سيكون أسوأ من كاملا هاريس في حال حسم الحزب الديمقراطي ترشيحه لها، صحيح أنّ الفروقات بين السيء والأسوأ لا تغيّر كثيرًا في القضايا العربية ولكن مهم رصدها لأنّ هذا التغيير ليس مطلوبًا ولا منتظرًا أن تقوم به أي إدارة أمريكية لأنه يخص العرب أولًا وهم لا زالوا بعيدين عن التأثير المطلوب في المعادلة الإقليمية والدولية.
(خاص "عروبة 22")