قضايا العرب

كيف نحكي قصّة محمد صلاح؟

القاهرة - شاهر عياد

المشاركة

منتصف الشهر الماضي، هنّأ الدوري الإنجليزي لاعب كرة القدم المصري محمد صلاح، بتصميم على "انستغرام" يظهر فيه جناح ليفربول نائمًا تحت بوابة نادي "المقاولون العرب" المصري، حيث اضطر للمبيت متسلّلًا عدة مرات قبل انتقاله للإقامة في القاهرة، عندما كان يسافر يوميًا من قريته نجريج (120 كيلومترًا شمال القاهرة).

كيف نحكي قصّة محمد صلاح؟

يعرف الجميع قصة نجاح المراهق الذي جاء من قرية مصرية هامشية ليلمع في أقوى ملاعب العالم، من نادي "اتحاد بسيون" مرورًا بـ"عثماثون طنطا" إلى "المقاولون العرب" حيث كان يسافر يوميًا إلى القاهرة لحضور التدريبات.

قصة نجاح أعاد صلاح سردها عشرات المرات في لقاءات صحافية وتلفزيونية، وأعيد تدويرها في عشرات الأفلام التسجيلية، أحدها أنتجه "الفيفا" بنفسه.

ولكن لم يكن صلاح وحده من يحكي قصته، بل معه كثيرون ممن يحاولون صرف الانتباه عن الأزمات المؤسسية التي تمر بها الرياضة المصرية وخصوصًا في السنوات الأخيرة، ومعهم محترفو برامج التنمية البشرية، الذين يطلبون من الناس العمل والعمل ثم المزيد من العمل، دون أن يطرح أحد السؤال البديهي: "لماذا تعيّن على مراهق مصري يريد ركل الكرة أن يسافر يوميًا لساعات من أجل تحقيق حلمه؟".

تعاني كرة القدم المصرية - مثل كل شيء تقريبًا في مصر - من المركزية الشديدة. فمنذ انطلاق بطولة الدوري العام، سنة 1948، اكتملت المسابقة 64 مرة، فازت بها سبعة أندية، ولكن درع البطولة خرج من القاهرة خمس مرات فقط.

وبطولة الدوري هذه تشكل قمة جبل الجليد التي تخفي تحتها تفاصيل الأزمة، فعدد الأندية ومراكز الشباب متدنٍ مقارنة بالمدن الكبرى وفق إحصائية الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وإضافة إلى قلّة العدد، فإنّ أوضاع الأندية ومراكز الشباب في الأقاليم والمناطق الريفية مزرية.

عزز من ذلك المشاهد التي صُوِّرت لاحقًا في ناديي اتحاد بسيون وعثماثون للقاء مدربي صلاح في بداياته، حيث تقدّم مرافقهما المتواضعة السبب المقنع الذي جعل صلاح يرحب بمتاعب السفر اليومي إلى القاهرة. 

تستند قصة نجاح صلاح على عمودين اثنين، الأول هو إصراره وجديته والتزامه، ويُدلل عليه بحكايات سفره اليومي وتفانيه في التدريبات ثم الاندماج مع الفرق الأوروبية التي لعب فيها. أما الثاني فهو تعامله بذكاء مع الكبوات وقدرته على اتخاذ قرارات ذكية تنقذه منها، وهو ما يُستدل عليه بكيفية تعامله مع ما حدث في تشيلسي.

في موسم الانتقالات الشتوية لموسم 2013/2014، وبينما كان صلاح على أبواب "ليفربول" بعد أدائه اللافت مع بازل السويسري، تلقى مكالمة من البرتغالي جوزيه مورينيو مدرب "تشيلسي" طلب منه فيها اللعب معه، فحوّل مساره إلى لندن. لكنَّ تجربته هناك لم تكن ناجحة بعد أن وجد نفسه على مقاعد البدلاء، ولم يشارك طوال سنة كاملة إلا في 13 مباراة، بدأ 6 منها فقط أساسيًا.

وقتها أحاطت الشكوك بمسيرة صلاح الاحترافية التي كانت واعدة، واستعادت الأذهان تجارب مشابهة للاعبين مصريين في التسعينيات وما بعدها، خفتوا سريعًا بعد أن حققوا في بداية مشوارهم الأوروبي نجاحات لافتة كلاعبين مغمورين واعدين، فعادوا سريعًا إلى مصر وأكملوا مسيرتهم نجومًا في أنديتهم السابقة، مثل حازم إمام وحسام غالي وعمرو زكي وكثيرين غيرهم تألقوا عند عودتهم، في وقت كانت بطولة الدوري فيه منتظمة وعالية المستوى تحضرها الجماهير.

ولكن في شتاء 2015، عندما أنهى صلاح سنة كاملة مع تشيلسي وكان يبحث عن نادٍ آخر وإن بمستوى أقل، ليشارك أساسيًا، كانت الأوضاع مغايرة في مصر. صحيح أنّ نجم "المقاولون" السابق كان يضع الاحتراف في أوروبا دومًا نُصب عينيه، ولكن ذلك لا يمكن فصله عن الحال المتردي للكرة المصرية الذي تركه صلاح خلفه وهو يغادر إلى سويسرا في أبريل/نيسان 2012، بعد شهرين فقط من مذبحة بورسعيد التي أوقفت النشاط الرياضي في مصر، ومزجت الكرة بالدماء.

وبينما كان صلاح في أوروبا، مرت الكرة المصرية بأحد أكثر فتراتها فوضوية؛ إذ أُلغي الدوري مرتين متتاليتين في 2012 و2013، ولُعبت منافساته مرة بنظام المجموعة الواحدة ومرة بنظام المجموعتين، وكانت المباريات تُلعب دون جمهور. فقدت المنافسة الكروية بشكل عام معناها وانزلق كل شيء إلى حالة من الفوضى، انفجرت في استاد الدفاع الجوي يوم 8 فبراير/شباط 2015، بعد خمسة أيام فقط من مغادرة صلاح "تشيلسي" إلى "فيورنتينا" الإيطالي.

صحيح أنّ صلاح قام بكل ما لم يقم به أغلب المصريين الذين سبقوه في أوروبا، من تعلّم اللغة والاندماج بالمجتمع والالتزام في التدريبات، ولكنه فعل ذلك وهو "ضهره للحيط"، فلم تعد هناك كرة في مصر ولم يعد هناك نجوم، ولعل انزواء اللاعب رمضان صبحي وتواريه بعد عودته من رحلة احترافه الفاشلة عام 2019 دليل على ذلك.

مثلما يستحق صلاح أن يحتفي، ونحتفي معه، بالمجهود الاستثنائي الذي بذله في مراهقته وشبابه ليجعل من ذلك المراهق الريفي البسيط أحد أفضل لاعبي العالم، يستحق آخرون مثل صلاح أن نتساءل عن الأسباب التي تجعل نجاحهم في مصر مرهونًا على الدوام بأن يبذلوا جهدًا خارقًا واستثنائيًا.

في الرياضة وغيرها من المجالات، لا توفر البيئة الاجتماعية والمؤسسية للمصريين فرصة الإبداع والانطلاق وتحقيق أحلامهم والنجاح، بل تزيد دائمًا من صعوبة التحديات.

يخبرنا صلاح عن التحديات التي خاضها والمصاعب التي مر بها، والرهان الكبير الذي وضعه في رحلاته اليومية من أجل الكرة، وهي رحلات خاضها في الوقت الذي كان عليه أن يخصصه لتعليمه. اختار صلاح المراهق ألَّا يسلك طريق الدراسة الجامعية، الذي يشكِّل الأمل الوحيد لكثير من المصريين - خاصة لأولئك القادمين من بيئات ريفية وطبقات أفقر - للترقي الاجتماعي. فهل من العدالة أن يضع كل شاب ريفي يريد لعب الكرة هذا الرهان، في ضوء احتمالات نجاحه الضئيلة؟.

جبرت البيئة الرياضية المصريين الراغبين في ممارسة الرياضة على أن يخوضوا رحلة طويلة من التحديات الاستثنائية برهانات صفرية، ستجبر الأغلبية دائمًا على الاختيارات الآمنة أملًا في وظيفة مضمونة أكثر، تدر دخلًا مناسبًا وتجلب وجاهة اجتماعية، وتقتل شغف الأفراد الرياضي، لتخسر الأمّة في النهاية أبطالها المحتملين.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن