كتبنا هنا كثيرًا أنّ الكيان الصهيوني الذي فُضح وانكشفت حقيقة طبيعته العنصرية الفجة أمام الدنيا كلها، بدأ رحلة نهايته الحتمية بعدما فقد أمام الإنسانية جمعاء كل مقومات البقاء في مجتمع الدول - يتواضع أمامه نظام جنوب أفريقيا العنصري البائد -.
تيارات مفرطة في التطرف والعنف هي حاليًا التي تصنع سياسات الكيان وخياراته
غير أنّ هناك وقائع وأحداثًا جرت مؤخرًا تمثّل إرهاصات قوية تشي بأنّ مشوار التحلل الداخلي لهذا الكيان بدأ بالفعل، وأنّ تدحرج مجتمعه وانزلاقه السريع نحو التطرف العنصري واستسهال التوسل طول الوقت بفيض القوة الغشيمة المنفلتة من أي قيد قانوني أو أخلاقي، فضلًا عن عادته القديمة في اللجوء لمسلكيات مفرطة في العنف والتوحش بينما هو آمن تمامًا من أية مؤاخذة أو عقاب بسبب تمتعه بحماية أمريكية مطلقة، هذا كله أنتج بطريقة تلقائية حالًا من السعار والفوضى داخل مجتمعه، الموزع أصلًا على ثقافات ومرجعيات وأصول مختلفة، بل أحيانًا متناقضة - يهود، ومدّعو يهودية لأسباب انتهازية، غربيون "أشكيناز"، وشرقيون "سفارديم"، ومتدينون متطرفون، وعلمانيون، حريديم وملحدون.. إلخ -، هذا الاختلاف الشديد في المكونات المستجلبة للكيان جعل مجتمعه بعيدًا عن أي انسجام، إذ لا يكاد شيء يجمع كل هذا الخليط سوى عقيدة الصهيونية التي تُشرعن الاغتصاب وتشيطن الآخر خصوصًا أصحاب الوطن المغتصب، وتمجد استخدام العنف الوحشي ضدهم.
هذا الخلل البنيوي الذي يعاني منه الكيان الصهيوني منذ تأسيسه، زاد تفاقمه بتأثير عوامل كثيرة أهمها اعتماد العنف المنفلت كوسيلة وحيدة لحل مشاكل فقره المدقع في شرعية الوجود بينما أصحاب الوطن الأصلاء موجودون.
إذن فقد استفحلت وتعمقت التناقضات خصوصًا مع غياب جيل النخبة الصهيونية المؤسِسِة - أغلبيتها الساحقة ملحدة - التي كانت بحكم نشأتها الغربية أكثر تعليمًا وأعمق خبرة، وقد أدى غيابها إلى الاعتماد أكثر وأكثر على العنف وإطلاقه بجنون ارتد على مجتمع العدو نفسه، على النحو الذي يشي به صعود تيارات سياسية مفرطة في التطرف والعنف لحد يلامس الجنون، هذه التيارات كانت حتى سنوات قليلة مجرد ظواهر فلكلورية لا وزن حقيقيًا لها في الشارع السياسي الإسرائيلي، لكنها الآن انتقلت إلى أروقة الحكم، بل هي حاليًا التي تصنع سياسات الكيان وخياراته على كل صعيد، فضلًا عن اندفاعاته الهوجاء نحو آفاق بعيدة جدًا في التوسل بعنف همجي مع عمى تام عن رؤية كل محظورات السياسة والقانون.
أما أخطر وأهم الوقائع التي شاهدناها مؤخرًا وتكشف المدى الذي ذهب إليه تَحلل مجتمع العدو ودولته، وتنبئ بأنّ النظام السياسي الإسرائيلي ربما انزلق فعلًا إلى "المرحلة الميليشياوية" بمعنى تراجع وتآكل مؤسسات الدولة لصالح نوع من العصابات المسلحة، هي قيام الصهيوني المتطرف إيتمار بن غفير وزير الأمن الداخلي بتوزيع أكثر من 140 ألف قطعة سلاح حربية على مستوطنين متطرفين ومهووسين من أمثاله.
ففي مشهد مثير ونادر الحدوث في أي دولة في العالم قام مئات من أعضاء الجماعات الصهيونية المتطرفة، باقتحام قاعدة عسكرية للجيش "بيت ليد" واشتبكوا مع قوة شرطة عسكرية حاولت إيقاف 9 جنود للتحقيق معهم في حادثة استشهاد أسير فلسطيني تحت تعذيب بشع في سجن "سيدي تيمان" الذي تحوّل إلى مسلخ للآلاف من الأسرى الفلسطينيين الذين أزهقت أرواح عشرات منهم بسبب تنكيل وتعذيب جماعي مروع تخجل الشياطين نفسها من ارتكاب مثله.
المجتمع الصهيوني نجح بتفوق في تشكيل عصابة إجرامية
ورغم أنّ رئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي كان أعلن عن إجراء هذا التحقيق مشفوعًا بتبرير مفرط في الوقاحة، عندما أفصح بما معناه أنه مجرد "إجراء شكلي" هدفه حماية الجنود من أية ملاحقة أمام مؤسسات العدالة الدولية، وقال صراحة "نحن نحمي بهذا الإجراء جنودنا من أية ملاحقات دولية"، لكن عصابات اليمين المتطرف لم يعجبها أن تتجرأ جهات تحقيق رسمية في الجيش على مجرد اتخاذ هذا الإجراء ولو كان شكليًا، وفورًا تحركوا لمنعه بالقوة بمشاركة أعضاء في الكنيست ووزير التراث في ظل غياب تام لقوات الشرطة المدنية المعنية بمواجهة هذا النوع من التمرد وتحدي مؤسسات الدولة.. لماذا غابت الشرطة؟! لأنها تابعة لوزير الأمن الداخلي بن غفير الذي شارك هؤلاء المتمردين رأيهم بأنه "من العار"، كما قال "ملاحقة هؤلاء الجنود الأبطال" الذين قتلوا أسرى عزل تحت التعذيب.
الخلاصة باختصار، أنّ المجتمع الصهيوني فشل فشلًا ذريعًا في بناء دولة، لكنه نجح بتفوق في تشكيل عصابة إجرامية.
(خاص "عروبة 22")