لم يأتِ إيمان الصهيونية بأهمية التحكم في دوائر صناعة القرار في العالم من فراغ بل استنادًا إلى مقاربات علم السياسة؛ فمن أهم مقاربات علم السياسة مقاربة صنع القرار (Approach Decision making)، ومقاربة المناصب (Positional Approach)، ومقاربة القوة (Power Approach)، ومقاربة المال (Money Approach)، ومقاربة الإعلام (الميديا) (Media Approach).
وتمتلك الصهيونية تلك المقاربات بكفاءة عالية منذ نشأتها، وهو سر نجاحها، وهو ما يُظهر لنا بوضوح كيف كانت الصهيونية منظمة تسير وفق أهداف وآليات للتنفيذ، وليست حركة عشوائية؛ فتدربت الحركة على التحكم في دوائر صنع القرار من أجل تحقيق كيان يهودي مزعوم في فلسطين.
استهداف الرأس (بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية)
ترى الصهيونية أنّ العودة الموعودة (المزعومة) التي تعتمد على تزوير التاريخ وتزوير الزمان والمكان لن تكون إلا بالاعتماد على القوى العظمى في العالم، فبدأت ببريطانيا العظمى -الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس - باعتبارها الرأس المهيمن على العالم وقتها، وقد كان لها الفضل الأكبر في وضع الخطوات الأولى لإيجاد كيان صهيوني في فلسطين.
البحث العلمي يجري توظيفه لخدمة الأهداف الصهيونية التوراتية
واستطاعت الصهيونية التحكم في دوائر صناعة القرار في بريطانيا، وتمكنت من إقناع الملكة فكتوريا بتبني تأسيس "صندوق استكشاف فلسطين 1864. وجعلت وزارة الحربية البريطانية تُسهم في دعم هذا الصندوق من خلال تفريغ عدد من الضباط للعمل على تحقيق أهدافه، خصوصًا المهندسون أمثال الكابتن "كلود كاوندر" والكابتن "تشارلز دارين" واللورد كتشنر، و"ت. أ. لورانس". وأعلن الصندوق أنه مؤسسة تهتم بالبحث الدقيق والمنظّم في الآثار والجيولوجيا والتاريخ وعادات وتقاليد الأرض المقدّسة، ومطابقتها مع ما ورد في التوراة، بمعنى أنّ البحث العلمي يَجري توظيفه لخدمة الأهداف الصهيونية التوراتية، من خلال استعادة مجْد فلسطين ومكانة القدس، واستعادة أسماء الأماكن المذكورة في التوراة.
ومن الجدير بالذكر أنه كانت هناك عدة مقترحات لإقامة وطن قومي لليهود في عدة دول حين تبنّت الجمعية اليهودية للاستعمار (بيكا) عام 1883 مشاريع عديدة لتوطين اليهود، بما في ذلك إنشاء مستوطنات زراعيّة يهودية في كندا، والولايات المتحدة، وكان من أهم المشاريع التي عملت عليها مشروع توطين اليهود في الأرجنتين، وموّل المشروع البارون "روتشليد" والبارون "هيرش"، وفي عام 1896؛ اقترح هرتزل في كتابه "الدولة اليهودية" أن تكون الأرجنتين أحد الأماكن التي يمكن فيها إقامة دولة يهودية إلا أنّ أغلب اليهود كانوا يميلون لزرعها في فلسطين.
استخدمت الصهيونية أبواق الدعاية الأوروبية بنجاح منقطع النظير وأصبح اليهود ملوك الإعلام والدعاية
أما عن الإعلام فقد استخدمت الصهيونية أبواق الدعاية الأوروبية بنجاح منقطع النظير، وأصبح اليهود ملوك الإعلام والدعاية، وقد نادت المؤتمرات الصهيونية العالمية بدءًا من المؤتمر الأول - الذي افتتح أعماله في مدينة بازل (Basel) بسويسرا في 29/8/1897 برئاسة تيودور هرتزل بضرورة التحكم في دوائر صناعة القرار في العالم لا سيما بريطانيا، واستخدام الصحف لتنفيذ برنامجها الذي يهدف إلى العمل على إيجاد وطن لليهود، وتغذية وتقوية المشاعر اليهودية والوعي القومي اليهودي، واتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على الموافقة الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية.
وأثناء عقد المؤتمر الصهيوني الأول، تم طرح فكرة التوطين في سيناء لقربها الجغرافي من فلسطين، لتكون تمهيدًا للوثوب لها، خاصة أنّ مصر كانت واقعة تحت الاحتلال البريطاني لكن لم يكتمل المشروع الذي رفضة اللورد كرومر لأنه سيفتح النار على الحكم البريطاني من الشعب في مصر وكذلك مع الحكومة العثمانية، التي كانت معارضة للمشروع، باعتباره يشكّل تهديدًا مباشرًا لممتلكاتها في فلسطين والحجاز.
وحاولت بريطانيا إرضاء اليهود، فعرض وزير المستعمرات البريطاني تشمبرلين عام 1903 في إطار تطبيق برنامج مؤتمر بازل، على هرتزل مقترح استيطان اليهود في بعض أجزاء الإمبراطورية البريطانيّة في منطقتَي كينيا وأوغندا (مشروع أوغندا)، وأبدى هرتزل الموافقة المبدئية ومعه الزعيم الصهيوني ماكس نوردو، لكنه قوبل بمعارضة شديدة من المنظمة الصهيونية، ووجهوا إنذارًا إلى هرتزل بالتخلي عن مشروع أوغندا، فسحبت بريطانيا عرضها وانتهى أمر المشروع.
وبالتالي أسفر المؤتمر الأول - نتيجة التغلغل في مراكز صنع القرار البريطاني - عن تحقيق أهداف عديدة، منها: وضع البرنامج الصهيوني المعروف ببرنامج (بازل)، وإقامة المنظمة الصهيونية العالمية لتنفيذ البرنامج الموضوع الذي نصّ على أنّ "هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام". وكذلك تشجيع استعمار فلسطين بالطرق الملائمة، وتنظيم اليهودية العالمية وربطها بمنظمات محلية ودولية تتلائم مع القوانين المتبعة في كل بلد، واتخاذ جميع الخطوات الضرورية للحصول على موافقة حكومية حين يكون ذلك لازمًا لتحقيق هدف الصهيونية.
عطاء من لا يملك لمن لا يستحق
وفي سنة 1900 عُقد المؤتمر الصهيوني الرابع في لندن، ومنذ ذلك الوقت توجه اهتمام هرتزل ورفاقه إلى بريطانيا. وحينما ألقى هرتزل كلمته في مؤتمر لندن أكد فيها أنه "من هذا المكان ستصعد الحركة الصهيونية، وتصعد إلى الأعلى، إنجلترا العظمى، إنجلترا الحرّة، بعينها المثبتة على البحار السبعة ستفهمنا".
دعا الصهاينة إلى انتهاج سياسة القوة لاعتقادهم بأنّ القوة هي اللغة الوحيدة لإجبار العرب على الرحيل من وطنهم
وحدث ما أراد، ففهمتهم ودعمتهم ووقفت بجانبهم في أكبر عملية تزوير وإعطاء من لا يملك لمن لا يستحق، فكان وعد بلفور الشهير (1917) بإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين الذي عُدّ جريمة كبرى في حق الإنسانية.
كما دعا الصهاينة إلى انتهاج سياسة القوة؛ لاعتقادهم بأنّ القوة وحدها هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب لإجبارهم على الرحيل من وطنهم، وأخذوا يعتمدون لتحقيق أهدافهم العنصرية والاستيطانية على التأثير في مراكز صنع القرار في بريطانيا، فنجحوا في تكوين عصابات يهودية منظّمة ومسلّحة برعاية بريطانية، من أهمها عصابات هاشومير (1909) والهاجاناة (1921 ) وأرجون (1931) وشتيرن (1940) وغيرها من العصابات المسلحة التي انبثق منها سنة 1948 الجيش "الصهيوني الإسرائيلي".
وعملت تلك العصابات على طرد الناس بالقوة، استنادًا إلى نصوص التوراة التي تتبنى فكرة الإبادة الجماعية ومن تلك النصوص "وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَامْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ" يشوع 6: 21. وكذلك " وَأَمَّا مُدُنُ هَؤُلَاءِ ٱلشُّعُوبِ ٱلَّتِي يُعْطِيكَ ٱلرَّبُّ إِلَهُكَ نَصِيبًا فَلَا تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا" اَلتَّثْنِيَة 16:20.
اعتمدت الصهيونية على بريطانيا وعندما زال مجدها انتقلت إلى الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية
ولذا نجد استمرار الكيان الصهيوني بسياسة سحق كل ما هو فلسطيني، وإثارة رعب واسع النطاق بمحاصرة وقصف قرى ومراكز سكانية، وحرق منازل وأملاك وبضائع، وطرد، وهدم بيوت ومنشآت، وقد أرغمت الفلسطينيين على ترك ديارهم عنوة، وزرعت ألغامًا وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم.
استطاعت الصهيونية أن تحكم بشكل شبه مطلق في دوائر صناعة القرار في العالم، فاعتمدت على بريطانيا في مجدها، وعندما زال مجدها انتقلت إلى الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية؛ فكانت نقلة نوعية جديدة طبقت فيها مقولة السياسي البريطاني ونستون تشرشل الخالدة "لا توجد صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، ولكن توجد مصالح دائمة".
(خاص "عروبة 22")