هدف نتنياهو أن يُفصِّل "اليوم التالي" على مقاسه، غير عابئٍ بأية حسابات أخرى، سواء للعرب أو للأمريكيين، أو حتى لمصالح إسرائيلية خالصة.
منذ صعوده إلى سُّدَّة الحكم لأول مرة في انتخابات 4 نوفمبر 1996، أعلن نتنياهو منذ اللحظة الأولى أنّ "لديه ما يأخذه وليس لديه ما يعطيه".
كانت السياسة العربية تتوقع - بل وتتمنى - فوز شيمون بيريز، تلبسها يقين من أنه هو الواصل إلى كرسي رئاسة الوزراء، وهي تتلقى نصائح أمريكية أن تقبل "أي شيء" من بيريز، لأنه أفضل من "لا شيء" مع نتنياهو.
تُسيطر على نتنياهو فكرة أن يجعل ما جرى في 7 أكتوبر بدايةً لتاريخ جديد لا يكون فيه غير شرق أوسط تقوده تل أبيب
بمرور الوقت، وتبدل المواقف، بدا أنّ العرب تأقلموا مع وجود نتنياهو، لكنهم لم يتعلموا درس صعوده ومعه اليمين الصهيوني الفاشي إلى صدارة المشهد السياسي في إسرائيل.
بعد قرابة 28 سنة تبدو السياسة العربية الرسمية أكثر ميلًا إلى تصورات نتنياهو المفزعة، وأكثر استنامة إلى أوهامه المجنونة.
نتنياهو الذي يصارع مستقبله المجهول، يعمل كل جهده، ويستدعي كل ألاعيبه السياسية لكيلا يصل إلى النتيجة الوحيدة التي لا يريد أن يعترف بها، ذلك الفشل الكبير الذي يُغطيه بكثرة الحديث عن "النصر المطلق".
بعد أكثر من 300 يوم يجد نتنياهو نفسه عاريًا من كل هدف وضعه، مُصرًا على مواصلة حرب فقدت شرعيتها، وفقدت قدرتها على تحقيق أهدافها، تُسيطر عليه فكرة تأخير "اليوم التالي" إلى أن يجعل ما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بدايةً لتاريخ جديد لا يكون فيه مقاومة، ولا دولة فلسطينية، ليس غير شرق أوسط تقوده تل أبيب.
خشي نتنياهو أن تأتي الرياح التي جلبتها نتائج الانتخابات الإيرانية والبريطانية والفرنسية بما لا تشتهي سُفنُه فتفتح الأبواب للدخول في تسويات كبرى تغلق احتمالات الحرب على إيران، وتئد مشروعه الشرق أوسطي قبل أن يولد، فقرر الهروب إلى الأمام.
على إثر ما جرى في "مجدل شمس" أقدم نتنياهو على قتل قائد عسكري بارز بـ"حزب الله" في قلب الضاحية الجنوبية، ثم ذهب بعيدًا إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في العاصمة الإيرانية.
أراد نتنياهو أن يقلب الطاولة بما عليها من أوراق، وما حولها من صفقات، ويوقف الحديث نهائيًا عن سيناريوهات ما بعد الحرب من فرضيات مثل استمرار سيطرة "حماس" بشكل مباشر أو غير مباشر، أو دخول قوات عربية أو دولية أو مختلطة إلى القطاع المهدم والمنكوب، أو عودة السلطة مجددة عبر توافق وطني.
أراد نتنياهو أن يستعيد توحّد الداخل الإسرائيلي نسبيًا، وأن يعيد إنتاج المواقف الداعمة لإسرائيل إلى وهجها الأول عند بدء الحرب، ومن ثمَّ يمضي قدمًا إلى تحقيق أهدافه الاستراتيجية المعلنة والمضمرة في إعادة صياغة شرق أوسط جديد.
المتمعن في ملامح خطة نتنياهو الرئيسية لـ"اليوم التالي"، وقد طرحها أمام الكونجرس الأمريكي خلال خطابه الرابع أمامه منذ أسابيع قليلة، يجدها ترسم خريطة شرق أوسط جديد على مقاس أوهامه قبل طموحاته.
في رؤية نتنياهو يبدأ الشرق الجديد باستسلام المقاومة، وإلقاء سلاحها، وبقاء الجيش الاسرائيلي في غزّة، تكون له السيطرة الأمنية المهيمنة على القطاع بهدف منع عودة ما يسميه "الإرهاب" لتهديد إسرائيل مجددًا، والجائزة التي يحصل عليها أهالي غزّة تتمثّل في إدارة مدنية للقطاع يقوم عليها فلسطينيون لا يسعون إلى تدمير إسرائيل.
نزع سلاح المقاومة لا يكفي في نظر نتنياهو بل يجب أن ينتزع ما يسميه بالتطرّف الفلسطيني على غرار ما جرى في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الطريقة التي أدت - في تصوره - إلى عقود من السلام والازدهار.
يريد التطويع لا التطبيع ويسعى إلى الهيمنة لا المسالمة
على هذا الأساس، ومن هذه النقطة يُدشن الشرق الجديد تحت رعاية أمريكا وبمباركتها ومشاركتها تحالفًا أمنيًا واسعًا بين إسرائيل وجيرانها العرب يكون امتدادًا لما يُسمى "اتفاقات إبراهام" ويضم كافة الدول التي ستصنع "السلام" مع إسرائيل.
لم يكتفِ نتنياهو بتشكيلة التحالف، وتحديد هدفه الرئيسي ضد إيران، ولكنه اقترح اسمه، وبدا أنه يُحبذ "تحالف إبراهام" عنوانًا لشرقه الجديد.
تحالف نتنياهو الإبراهيمي يُفضي إلى القضاء على حقيقة أنّ القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع في الشرق الأوسط، ويستبدلها بزعم مجابهة الخطر الإيراني على المنطقة والعالم.
منذ بروز نتنياهو على الساحة الإسرائيلية وهو لا يتطلع إلى التطبيع مع العرب، ولا يرنو إلى أن تكون إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة، ظل دومًا يريد التطويع لا التطبيع، ويسعى إلى الهيمنة لا المسالمة، ولكنه ينسى أو يتناسى أنّ غيبوبة العرب لا يمكن لها أن تدوم.
(خاص "عروبة 22")