عدم استيعاب القيادات للتاريخ يجعلها تكرر أخطاء من سبقها. المتخصص في الشأن الإيراني الكاتب أمير طاهر نشر منذ أسابيع مقالًا في "الشرق الأوسط" قال فيه إنّ "إيران تحتاج إلى جورباتشوف"، وربما إيران تحتاج أكثر إلى قائد مثل كونراد أديناور الألماني، بعد الحرب العظمى الثانية.
من المؤكد أنّ الاعتماد على الإكراه هو أحد أهم أعراض عدم كفاءة القيادة، والسبب الثاني في عدم الكفاءة، الشهوة في التوسع خارج الحدود. لم يكن أكثر اعتمادًا على الإكراه في التاريخ الحديث للشرق الأوسط من محمد رضا بهلوي شاه إيران السابق، لقد كانت أذرع جهازه السري، منظمة المخابرات والأمن، مختصرها (السافاك)، تطال أي معارض في داخل إيران وفي خارجها، حتى وصل إلى تهديد بعض أعضاء البرلمان البريطاني، كانت قوة قاهرة وفاجرة، قتلت عشرات الآلاف وأخفت مثلهم من الإيرانيين، ومن غيرهم، ومع ذلك في نهاية المطاف سقط حكم الشاه.
صدام حسين اعتمد على الجهاز السري، فطارد المعارضة في عواصم العالم، بل اغتال معارضيه في الكويت، كما فعل مع حردان التكريتي، وأرسل سيارات دبلوماسية لتهريب الجناة!
تجمع إيران اليوم بين الإكراه في الداخل والتوسّع في الخارج وهي سياسة مكتوب عليها الفشل
كفاءة الإدارة السياسية هي القدرة على إقناع المواطنين أن يسيروا إلى جانب مشروعهم دون إكراه، وبالتالي يتوجب أن يكون مشروعًا مدنيًا تنمويًا، بعيدًا عن الصراعات، وحتى الآن عشرات الآلاف من المواطنين الإيرانيين فقدوا حياتهم أو تشتتوا في الأصقاع بسبب سياسة الإكراه، وهي سياسة أفظع من سياسة الإكراه الدنيوي، هي إكراه يدعي أنه ربّاني!!.
ألمانيا دخلت في حربين، العالمية الأولى والثانية، من أجل توسيع ممتلكاتها، وفي نهاية الأمر فقد ملايين من شعبها وأيضا شعوب أخرى حياتهم، وأول عمل عمله كونراد أديناور باني ألمانيا الحديثة أن قطع نهائيًا مع فكرة التوسّع.
تجمع إيران اليوم بين الإكراه في الداخل، والتوسّع في الخارج، وهي سياسة مكتوب عليها الفشل، وتحاول بعض القوى الإيرانية أن تخرج من هذا المأزق، بدليل أنّ الناس اختارت أقل الشرّين في الانتخابات العامة الأخيرة، بين المتشددين و(الإصلاحيين) على ميوعة المصطلح الأخير.
الاتحاد السوفيتي لسبعين عامًا اختار أيضًا سياسة الإكراه في الداخل وسياسية التوسّع في الخارج، حتى أصبح الموطن في تلك البلاد ليس له رأي في ما يدور حوله، ودخل في مغامرات عسكرية دفع فيها الكثير من موارده وطاقاته، وقد فشل بامتياز، من أوروبا الشرقية وحتى عدن جنوبًا وكوبا غربًا!.
في كل الأحيان سياسة الإكراه تأخذ المجتمع شيئًا فشيئًا إلى انحراف المؤسسات، ونمو معارضة دخل مؤسسات الدولة.
مقتل إسماعيل هنية وكذلك مقتل عدد من الخبراء الإيرانيين المتخصصين في الصناعات الحديثة، وتهريب كم من وثائق برنامج التخصيب النووي، لم يكن بالمستطاع تنفيذ كل هذه العمليات، مهما كانت قوى الأجهزة المنفّذة، لولا تعاون ما من الداخل الإيراني، وربما من الملتصقين (ظاهريًا) بالنظام.
تراجع إيران أو حتى "تمهلها" في الرد على مقتل هنية، رغم الحديث الصاخب عن الرد (المدوي) دليل آخر على أنّ النظام يشعر بنقاط ضعفه، فإن تم الاشتباك المباشر والطويل مع إسرائيل يعني في بعض ما يعنيه الاشتباك مع الولايات المتحدة، وذلك يعني تعرّض بقاء النظام للخطر.
الطموح المفرط والغطرسة يستدعيان دائمًا العيش على حافة المخاطر، وأي انزلاق من تلك الحافة يعني السقوط في الهاوية.
لا يرى كثيرون أنّ النظام الإيراني القائم قد استوعب دروس التاريخ، بعض القيادات الوسطى وربما قليل من العليا تعرف ذلك، أما صلب النظام فهو مأخوذ بمقولات (ما روائية) ليس لها رؤية سياسية حديثة، هي مزيج من أفكار غير قبالة للتطبيق في العصر الذي نعيش واتصال بالموتى في انتظار عوتهم للحياة!!.
طهران لن تدخل في صراع مباشر وطويل مع إسرائيل لأنها تعرف أنّ ثمن ذلك انتهاء النظام
لو اتجهت إيران إلى نظام قائم على المساواة والتطبيق العلمي لقواعد القانون الدولي، لنجت ونجا الإقليم من كل هذه الأزمات المحيطة به، ودمجت الوسائل مع الغايات، للوصول إلى الخير العام المشترك.
قد تُمثّل المجموعة الإصلاحية التي تشكلت بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، قوة لضبط التهور ومنع الانزلاق للتشدد، حيث يجب تكوين فريق يحيط بالقيادة يخفف من معضلات قرارات المتشددين، إلا أنّ المعركة لن تحسم قريبًا.
الحقيقة المعروفة حتى الان أنّ طهران لن تدخل في صراع مباشر وطويل مع إسرائيل لأنها تعرف أنّ ثمن ذلك في نهاية الأمر انتهاء النظام كما عُرف في نصف القرن الماضي، فموارد إيران لا تتحمل ذاك الصراع، كما أن أذرعتها لن تقوى على الصمود، فـ"حماس" تفقد السيطرة على غزّة، وتنمو معارضة شبه نشيطة في لبنان، وقد تتفرّغ إسرائيل لـ"حزب الله" لقصقصة أطرافه الحادة!.
إلا أنّ سقوط "الوهم الكبير" يحتاج إلى وقت، وقد يحتاج أيضًا إلى عدد من الصدمات، لننتظر ونراقب!!.
(خاص "عروبة 22")