يتوالى في الجامعات الغربية تنظيم ورش عمل ومؤتمرات تناقش صعود الساسة الشعبويين ونجاحات أحزابهم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وبشأن تفسير أسباب الصعود وشرح عوامل النجاح الشعبوي يرتكز جل الأفكار المطروحة إلى الأزمة المركبة التي تواجهها المبادئ الديمقراطية عالميًا.
فمن جهة أولى، يتواصل اندفاع الولايات المتحدة وبعض البلدان الأوروبية، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا لتوظيف الأدوات العسكرية على نحو يتناقض مع قيم الديمقراطية، إن ١) في سياق الحروب المستمرة على الإرهاب من غير اعتبار لضرورة المزج بين ضربات «الطائرات دون طيار» والضربات الصاروخية وبين مساعدة البلدان التي تنتشر بها البيئات القابلة للإرهاب وللعنف في العالم العربي-الإسلامى، وفي بعض مناطق غرب إفريقيا على لملمة أشلاء دولها الوطنية وعلى التأسيس لسيادة القانون وعلى مواجهة الفقر والتخلف والتطرف بجهود تنموية جادة، أو ٢) في سياق العصف بسيادة بعض البلدان وتفتيت دولها الوطنية غزوًا واحتلالًا، كما حدث في أفغانستان والعراق أو تدخلًا عسكريًا مباشرًا في الحروب الأهلية كحالة الصومال في تسعينيات القرن الماضي أو دورًا عسكريًا محدودًا يقتصر على الضربات الجوية وعلى تسليح بعض المجموعات المحلية لحسم صراع على السلطة ثم ترك الأمور لحروب الكل ضد الكل العبثية كما في ليبيا الآن، ٣) أو في سياق استخدام القواعد العسكرية لحماية حكومات مستبدة وسلطوية والحفاظ على بقائها لكونها تضمن مصالح الغرب الحيوية ولتذهب الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات إلى الجحيم.
من جهة ثانية، وفي مقابل الاندفاع لتوظيف الأدوات العسكرية في السياقات سابقة الذكر والمتناقضة مع القيم الديمقراطية، يتلكأ الغرب في تحريك جيوشه وأساطيله وحاملات طائراته لمنع أو لإيقاف مذابح وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية والتصفية العرقية والحروب الدينية حين تدور رحاها في مناطق لا أهمية استراتيجية كبرى لها، وتفرض خرائط دمائها على بلدان لا مصالح حيوية للغرب فيها أو حولها. وبذلك يتنصل الغرب من بقية التزاماته الأخلاقية والإنسانية التي أعلنها حين انتهت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) بهزيمة الحكومات النازية والفاشية وتحررت البشرية من جرائمها المروعة، والتي تضمنت صون حق الأمم والشعوب في الحياة وتقرير المصير والسلم العالمي وعدم السماح أبدًا بتكرر فظائع الإبادة والحرق والقتل والدمار والانتهاكات.
ثالثًا، لم تتنازل الولايات المتحدة الأمريكية ومعها حلفاؤها في أوروبا عن النزوع المستمر للهيمنة على العالم عبر فرض التبعية العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والتجارية على البلدان غير الغربية، وعبر مواصلة تطوير وإنتاج العتاد العسكري التقليدي وأسلحة الدمار الشامل واستتباع الكثير من البلدان بسباقات التسلح وبصادرات السلاح وبعروض «الحماية نظير القواعد والتسهيلات العسكرية»، وعبر الترويج الدائم لخطاب التفوق الغربي. والحصيلة هي أن البشرية لم يسبق لها أن عانت من مثل هذا الكم المرعب الراهن من الحروب الأهلية والمذابح وجرائم الإبادة وأعمال الإرهاب والعنف، ولم تقترب أبدا من الدرجة الراهنة من التدجيج بالسلاح التقليدي وبأسلحة الدمار الشامل.
من جهة رابعة، ولأن الغرب يغلّب الهيمنة على العالم واستتباع بلدانه على التقدم الجماعي لبشرية تتوازن وتحقق أممها وشعوبها تنمية مستدامة تقضي على الفقر والتخلف والجهل وتتخلص من شرور الحروب والإرهاب والعنف وفظائع الإبادة وغيرها وتتضامن علميا وتكنولوجيا وإنسانيا في مواجهة الأخطار البيئية والكوارث الطبيعية والتحديات الصحية (كالإيدز والإيبولا) المتجاوزة لحدود الدول الوطنية، لم ترتب سياسات دعم التنمية الأمريكية والأوروبية وبرامج نقل المعرفة العلمية والتكنولوجية والصناعية باتجاه البلدان غير الغربية والتي دومًا ما يروج لها باعتبارها ترجمة مباشرة للقيم العالمية للديمقراطية سوى القليل من النتائج الإيجابية – والتي أعرفها هنا بخروج البلدان غير الغربية من وضعية التبعية للولايات المتحدة ولأوروبا ومن هوية المستهلكين الأبديين لإنتاج الغرب وتحولها إلى المشاركة والمنافسة في التقدم العلمي والتكنولوجي والصناعي، وهو ما أنجزته اليابان وكوريا الجنوبية في النصف الثاني من القرن العشرين، وتنجزه اليوم الصين، وبدرجة أقل كل من الهند، وبعض البلدان الآسيوية الأخرى كماليزيا والبرازيل في القارة اللاتينية.
خامسًا، تتعلق أزمة المبادئ الديمقراطية والتراجع المستمر الذي يسجله الالتزام بها خارج الغرب بحضور أفكار كبرى بديلة تتصاعد فعاليتها المجتمعية والسياسية في مخيلة وواقع الكثير من الأمم والشعوب. ويتمثل أبرز هذه الأفكار في «التنمية السلطوية» التي تطرحها التجربة المعاصرة للعملاق الصيني الذى يحقق منذ تسعينيات القرن العشرين وإلى اليوم معدلات مبهرة للنمو في الناتج القومى الإجمالي (تتراوح بين ٧ و١١ بالمائة سنويًا)، وينجز تنمية مستدامة تعتمد على قطاعات علمية وتكنولوجية وصناعية وزراعية عالية الإنتاجية ومرتفعة القدرة التنافسية وتحسن على نحو جذري من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والظروف المعيشية والخدمات الأساسية لعدد هائل من البشر (يقترب التعداد الحالي للسكان في الصين من مليار وأربعمائة ألف)، ويطور شبكة عالمية هائلة من العلاقات الاقتصادية والتجارية تميل موازينها لصالحه ويراكم على إثرها موارد وثروات مالية غير مسبوقة في تاريخه المعاصر، ويكتسب دوره في جواره الآسيوي بمراكز القوة المختلفة المرتبطة باليابان وبالهند وبروسيا الآسيو-أوروبية نفوذًا متصاعدًا ويتبلور دوره العالمي فى إطار ندية كاملة مع الغرب الأمريكي والأوروبي. وتجربة العملاق الصيني، ومن هنا يأتي توصيفها كتنمية سلطوية، تستند إلى فك الارتباط على نحو شامل بين التقدم العلمي والتكنولوجي والصناعي وتنافسية اقتصاد السوق الحرة وبين اعتماد القيم الوطنية للديمقراطية ذات الصلة بسيادة القانون وصون حقوق الإنسان والحريات وتداول السلطة وحضور حياة سياسية وحزبية تعددية وحماية الأقليات. وهي بذلك، كما بالتزامها العالمي حفظ السلم والأمن الدوليين والامتناع عن التورط في الصراعات العسكرية والحروب المسلحة (باستثناء بعض حروب القارة الآسيوية في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين، وأوضحها حرب الكوريتين وحرب فيتنام التي أشعلها التدخل العسكري الأمريكي)، تقدم نموذجًا مناوئًا من جهة للديمقراطية الغربية جاذبيته في الفاعلية الاقتصادية والاجتماعية ومتماهيًا من جهة أخرى مع قيم عالمية سامية كحفظ السلم ونبذ الحروب على نحو يتفوق على ادعاءات الغرب الأمريكي والأوروبي فارغة المضمون.
(الشروق المصرية)