ولذلك فإنّ رقم الأربعين ألف شهيد فلسطيني الذي تم تجاوزه مطلع الأسبوع بعد ما يزيد عن عشرة شهور من حرب الإبادة، وفقًا لإحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية، ويضاف إليهم نحو عشرة آلاف آخرين ممن تحللت أجسادهم تحت الأنقاض وفي عداد المفقودين، وما يقترب من مائة ألف مصاب، هذه الأرقام المفزعة الصادمة لا تمثّل أي مصدر أرق لقادة جيش الاحتلال ممن يديرون دفة آلة القتل التي لا تتوقف في عموم الأراضي الفلسطينية.
والأسوأ في الواقع الدولي العنصري القبيح الذي نعيشه هو أنّ رعاة دولة الاحتلال من البيض في الغرب يتبنون النظرة العنصرية الاستعلائية نفسها في التعامل مع الشعوب وإزهاق أرواحهم بلا ثمن، حتى لو تشدقوا بشعارات حقوق الإنسان والمساواة بين البشر. فبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا بما لها من تاريخ استعماري طويل بزعم نشر الحضارة الغربية، ومؤخرًا الولايات المتحدة بمغامراتها العسكرية الخارجية الممتدة من فيتنام حتى العراق كانوا يرون في القتل واسع النطاق للسكان المدنيين أمرًا مبررًا ومقبولًا اضطروا له في مواجهة الهمج والمتطرّفين أعداء مشروع التحضر الغربي الأبيض.
حجم الحشد العسكري الأمريكي في المنطقة يجعل من اشتعال الحرب الإقليمية واسعة النطاق احتمالًا قائمًا
هذا الشق العميق الذي رسخته حرب الإبادة الصهيونية المتواصلة والذي نشاهده نحن والعالم بكل بلادة بعد أن اعتدنا على الأعداد اليومية للشهداء الفلسطينيين، لن يختفي وسيمثّل علامة فارقة لشعوب المنطقة متى انتهت حرب الإبادة الصهيونية في غزّة.
بل ربما يكون المطلوب هو أن نستعد للأسوأ وما هو أوسع دمارًا وهولًا في أعداد الضحايا من الشعوب العربية لو تحقق أمل رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو في إشعال حرب واسعة النطاق تقودها الولايات المتحدة في إطار عملية الانتقام الواسع من "طوفان الأقصى" لتشمل إيران وكل حلفائها في المنطقة. فمن دون القضاء على طهران ونفوذها، يرى نتنياهو أنّ الكيان المحتل سيبقى معرّضًا لهجمات شبيهة.
ورغم أنّ كل المؤشرات الموضوعية ترجح أنّ الأمريكيين أنفسهم لا يرغبون في خوض مثل هذه الحرب، سواء الديمقراطيون ومرشحتهم كامالا هاريس أو حتى الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب رغم كل تطرّفه في دعم إسرائيل، فإنّ حجم الحشد العسكري الأمريكي في المنطقة منذ اغتيال القيادي العسكري في "حزب الله" فؤاد شكر، وبعدها بساعات اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، خشية عمليات الثأر من دولة الاحتلال، يجعل من اشتعال الحرب الإقليمية واسعة النطاق احتمالًا قائمًا.
ومع وصول اثنين من أضخم حاملات الطائرات الأمريكية والغواصة "جورجيا" التي تحمل صواريخ موجهة لبحار منطقة الشرق الأوسط، فمن المؤكد أنّ الاستعدادات العسكرية هذه المرة تفوق بكثير ما قامت به أمريكا لحماية دولة الاحتلال من الصواريخ الإيرانية التي تم الإعلان عن موعد إطلاقها مسبقًا في منتصف شهر أبريل/نيسان الماضي ردًا على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق.
وفي ظل ما تشير له التقارير الصحفية الأمريكية عن تقاعس الدول العربية الصديقة لواشنطن هذه المرة عن المشاركة في حماية دولة الاحتلال من الصواريخ الإيرانية في ضوء استمرار حرب العدوان في غزّة والإقدام على جريمة قتل هنية بينما كانت المفاوضات تجري معه للوصول لاتفاق لوقف إطلاق النار، فإنّ الاستعدادات العسكرية الأمريكية تفيد بأنها قد تقوم بهذا الجهد العسكري منفردة، وربما بمشاركة حلفائها الغربيين التقليديين مثل بريطانيا وفرنسا.
لدى إيران الكثير لتخسره وعلى رأسه شبكة الحلفاء في المنطقة الذين يعملون نيابةً عنها لفرض نفوذها
وفي الزيارة التي قام وزراء خارجية الدولتين لدولة الاحتلال مؤخرًا، صرح وزير الخارجية الإسرائيلي كاتس أنه لا يتوقع من بريطانيا وفرنسا فقط صد أي هجوم إيراني محتمل على إسرائيل، بل المشاركة كذلك في ضرب أهداف داخل إيران من أجل القضاء على التهديد الذي تمثله طهران.
ربما تكون إيران هي الأكثر رجاحة هذه المرة وترفض الانجرار إلى مثل هذه الحرب المجنونة، خاصة أنّ لديها الكثير لتخسره وعلى رأسه هذه الشبكة القوية من الحلفاء في المنطقة والذين يعملون نيابةً عنها لتحقيق طموحها في فرض نفوذها كدولة إقليمية قوية.
وإذا كان نتنياهو بتطرّفه يدفع نحو إشعال تلك الحرب واسعة النطاق بهدف إضعاف إيران، فإنّ الرد الإيراني المرتقب على اغتيال هنية، وما سيقوم به "حزب الله" انتقامًا لمقتل القيادي فؤاد شكر، يجب أن يكون بالذكاء الكافي لمنع تحقيق طموح رئيس الوزراء الإسرائيلي والدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة لن تقتصر تكلفتها البشرية على عشرات بل مئات الألوف.
نحن بكل تأكيد في لحظة فارقة وإن كانت تجربة حرب الإبادة الصهيونية في غزّة على مدى الشهور العشرة الماضية لا تشي سوى بتوقع الأسوأ دائمًا في ظل واقع عربي عاجز وممزق وعالم تديره حكومات الغرب العنصرية.
(خاص "عروبة 22")