يمتلك نيتانياهو بحكم انتمائه لليمين التصحيحي الصهيوني وهو التيار الذي تزعمه فلاديمير "جابوتنسكي" ونشأته العائلية في هذا المناخ، قدرات وقناعات "ميكياڤيللية" تتواضع أمامها نصائح "ميكياﭭيللي" للأمير في كتابه المعروف بهذا الاسم، ففضلا عن الأيديولوجية اليمينية التي توجه تفكيره ويسترشد بها، يمتلك قدرات فذة على المناورة وإزاحة وإسقاط المنافسين من معسكره اليميني أو غير معسكره، كما أبرز قدرات واضحة في توحيد اليمين الديني والقومي المتطرف طوال سنوات حكمه، وأسهم في صعوده إلى سدة الحكم، ومهد الطريق لهذا اليمين للسيطرة على مفاصل الدولة وتغيير هويتها من خلال قوانين الإصلاح القضائي والتي تسببت في انقسام عميق داخل إسرائيل، وتجمد الحديث عنها بعد طوفان الأقصى.
هذه القدرات البهلوانية والميكياﭭيللية التي تميز بها أداء نيتانياهو، مكنته حتى الآن من البقاء في سدة الحكم في إسرائيل لفترة تفوق مؤسس الدولة الإسرائيلية "بن جوريون"، ولا يزال الأفق مفتوحا حتى الآن لإكمال ولايته، رغم الملاحقات القضائية بالرشوة وخيانة الأمانة، ورغم الانقسام الذي شهدته إسرائيل في عهده بسبب الإصلاح القضائي وأخيرا وليس آخرا رغم فشله في تحقيق أهداف الحرب الإجرامية وحرب الإبادة التي شنها ضد الشعب الفلسطيني، على الأقل من زاوية الأهداف المعلنة للحرب منذ البداية والتي تمثلت في القضاء على حماس والمقاومة الفلسطينية واستعادة المحتجزين بالقوة، ورغم الدمار والقتل والعدد الكبير من الضحايا من المدنيين والأطفال والنساء وحرب التجويع والتعطيش التي تشنها على غزة.
وهذه الأهداف التي حددتها الحكومة الإسرائيلية للحرب منذ البداية، قد تغيرت في أثناء فترة الحرب التي تقارب الشهر الحادي عشر، وهو ما لم يحدث في تاريخ أي حرب إسرائيلية حتى الآن. نيتانياهو يريد استمرار هذه الحرب ويستثمر ما يسمى "صفقة التبادل" لإطالة أمدها، تحت غطاء التجاوب مع الضغوط الأمريكية والدولية ولكنه في الواقع لا يريد سوى شراء المزيد من الوقت لاستمرار الحرب دون أفق سياسي واضح وتساعده في تحقيق هذه الغاية الحليفة الكبرى لإسرائيل أي الولايات المتحدة التي بادرت منذ اليوم الأول لنشوب الحرب بتحريك الأساطيل والطائرات للحئول دون تصعيد الحرب وتحويلها إلى حرب إقليمية ودخول أطراف أخرى فيها؛ حتى تنفرد إسرائيل بالمقاومة الفلسطينية، وقد فعلت ذلك أي الولايات المتحدة مجددا بعد اغتيال إسرائيل هنية وفؤاد شكر، الأول في طهران وصبيحة تنصيب الرئيس الإيراني رسميا، والثاني في بيروت لحماية إسرائيل من ردود الفعل الإيرانية وحزب الله.
وفي المقترح الأمريكي الأخير يبدو أن الولايات المتحدة قد تراجعت عن مبادرة "بايدن" في 31 مايو الماضي وانحازت مجددا للمطالب الإسرائيلية وتضغط على حركات المقاومة للقبول بذلك ورمي الكرة في ملعبها؛ رغم علم الجميع بأن نيتانياهو هو من يقوم بعرقلة الاتفاق والصفقة وفرض شروط تعجيزية غير مقبولة ولم تكن قائمة. وعلى الأرجح فإن بقاء نيتانياهو واستمرار حكمه مع الائتلاف اليميني المتطرف دينيا وقوميا لا يرتبط بالضرورة بمهاراته الميكياﭭيللية فحسب، بل بأسباب عديدة أخرى في المجتمع الإسرائيلى في اللحظة الراهنة.
أولها يتمثل في ضعف المعارضة الإسرائيلية وعدم قدرتها على تشكيل بديل لسياسات نيتانياهو، كما أنها غير موحدة، وتفتقد أي رؤية لما يسمى "اليوم التالي" بحيث إنه لم يعد يذكر بوجود هذه المعارضة إلا "الاشمئزاز" من شخص نيتانياهو كما يقول أحد المعلقين، أما صورة إسرائيل في المدى القريب والبعيد والقضايا الأساسية كالاحتلال والحرب والديمقراطية فهي غائبة عن المعارضة، بل ولا توجد فوارق كبيرة بين اليمين والوسط واليسار، فثمة دولة تتحدث بصوت واحد ورأي واحد ووجهة نظر واحدة يعبر عنها رئيس الحكومة الإسرائيلية، ولعل الدليل الأبرز على ذلك تصويت الكنيست الإسرائيلي مرتين متتاليتين أولاهما في فبراير 2024 تأييدا لقرار الحكومة الإسرائيلية معارضة الاعتراف أحادي الجانب بالدولة الفلسطينية.
ورغم أنه من الناحية التاريخية أيد اليسار والوسط كل حروب إسرائيل، إلا أنه في بعض الحالات كانا يراجعان أنفسهما، على عكس ما يحدث في الحرب الحالية، التي تتميز عن غيرها بعدم وجود معارضة. أما ثاني هذه الأسباب فيتمثل في وجود ائتلاف حكومي متعثر وفاشل، لكنه يمتاز بأنه متماسك، خاصة في ظل تراجع قوته في استطلاعات الرأي العام وهو الأمر الذي يدفعه للتمسك بمواقعه والتي لا يضمن استعادتها في حالة انهياره وإجراء انتخابات مبكرة.
أما السبب الثالث لبقاء لنيتانياهو فيتمثل في خطورة الأوضاع الأمنية والسياسية غير المسبوقة في تاريخ إسرائيل والتي تتميز بتورط إسرائيل في حرب استنزاف في غزة وترقبها لردود الأفعال من قبل جهات أخرى، في لبنان حزب الله وإيران بعد الاغتيالات التي نفذتها وتصاعد احتمالات التصعيد الإقليمية والتي هي ليست مؤكدة حتى الآن ولكنها غير مستبعدة، وهي الأوضاع التي خلقتها العدوانية الإسرائيلية منذ أن وجدت إسرائيل في المنطقة.
وبالإضافة إلى هذه الأسباب التي تهيئ لبقاء واستمرار نيتانياهو، ثمة ناحية أخرى وهي تعلق نيتانياهو بفوز ترامب في الانتخابات الأمريكية المقبلة باعتبار أنه سيكون أكثر انحيازا لإسرائيل من الإدارة الحالية بعد تهافت أوراقها وظهور عجزها. وبقاء نيتانياهو يعني من وجهة النظر العربية والفلسطينية الاستعداد لما هو آت والمبادرة برأب الصدع والانقسام الفلسطيني وتشكيل جبهة عريضة من كل الفصائل الفلسطينية وتشكيل ظهير عربي للقضية الفلسطينية يستطيع أن يواجه هذا الموقف وتبعاته خاصة بعد تهافت موقف المجتمع الدولي وازدواجية معاييره واصطفافه الفج وراء إسرائيل رغم أنها فقدت مكانة الضحية منذ زمن بعيد.
(الأهرام المصرية)