منذ دخول "حزب الله" كجبهة مساندة من لبنان لحركة "حماس" في مواجهة الحرب الإسرائيلية على غزة، وهو يحاول الالتزام بقواعد الاشتباك التي تشهدها الحدود اللبنانية الإسرائيلية منذ سنوات طويلة، لكن مع استمرار حرب غزة منذ أكتوبر الماضي وحتى الآن، وتوسع إسرائيل في عمليات اغتيال قيادات "حماس" وكوادر "حزب الله" في جنوب لبنان التي كانت ذروتها اغتيال القيادي بالحزب فؤاد شكر، سقطت معظم قواعد الاشتباك التقليدية وتحول الأمر إلى حرب استنزاف حقيقية بين الحزب وإسرائيل.
ورغم هذا التصاعد لا يرغب الطرفان الدخول في حرب موسعة قد تفجر الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بالكامل، الجانب الإسرائيلي يعلم انه بالرغم من التفوق العسكري والدعم الاستخباراتي واللوجستي الأمريكي، سيدفع ثمنا باهظا لأي حرب شاملة يتورط فيها، وقد سبق أن حذرت قيادات عسكرية كثيرة من ذلك منهم اللواء يسرائيل زيف الرئيس السابق لشعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي الذي أوضح أن الدخول في حرب موسعة مع لبنان في حال حدوثها سيأتي في أسوأ وقت ممكن لإسرائيل، وسوف يشمل الجبهة الداخلية الإسرائيلية بأكملها، كما حذر اللواء متقاعد إسحاق بريك من أن إعلان تل أبيب الحرب على لبنان سيعني الانتحار الجماعي لإسرائيل بقيادة نيتانياهو، وتبعات الحرب ضد لبنان ستكون أكثر خطورة مما حدث في الماضي، وسيطلق حزب الله نحو إسرائيل عشرات الصواريخ والمسيرات، وفي النهاية نحن لن ننجح في إيقافها، لا عبر استخدام الطائرات ولا عبر القبة الحدودية.
وعلى الجانب المقابل لا يرغب "حزب الله" أيضا في الدخول في حرب موسعة مع إسرائيل، وقد أكد الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لـ"حزب الله" أنه لا يتوقع اندلاع حرب موسعة بين الحزب وإسرائيل في المدى المنظور، وأوضح قاسم في تصريح لوكالة سبوتنيك الروسية أن إسرائيل ليس لديها سوى الموافقة على شروط حركة "حماس"، معتبرا أن الخيارات عند الجانب الإسرائيلى تضيق، وفي أول وقت سيشعر الإسرائيلي بعدم قدرته على الاستمرار في القتال سيبرم صفقة.
ويرى كثير من المراقبين أن الخسائر البشرية وغيرها الضخمة التي تعرض لها "حزب الله" خلال العشرة أشهر الأخيرة، تكشف عن الفارق العسكري والتكنولوجي الكبير بين الحزب وإسرائيل والاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي الواضح لجنوب لبنان.
والحقيقة أن هناك عوامل موضوعية كثيرة تجعل "حزب الله" غير راغب في اندلاع حرب موسعة مع إسرائيل، منها الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية والأزمة السياسية في لبنان، الأمر الذي لا يوفر إجماعا لبنانيا داعما لـ"حزب الله" في مواجهة إسرائيل، بل إن بعض القوى السياسية اللبنانية تقف ضد الحزب في هذا الأمر، وعلى رأسها سمير جعجع زعيم حزب القوات اللبنانية الذي يتهم حزب الله بأنه يأخذ لبنان إلى المجهول، ويقول إننا امام حرب استنزاف لئيمة تكبد لبنان أرواحا بشرية من جهة وخسائر اقتصادية من جهة أخرى، واستنزاف على المستويات كافة، وإذا تم التصعيد بشكل أكبر فالله أعلم أين سنصبح وماذا سيحصل وكيف ستكون الخسائر، ليصبح لبنان خاسرا في كلتا الحالتين.
وهناك ضغوط أيضا على "حزب الله" من جانب قوى إقليمية ودولية كثيرة لمنعه من تصعيد الحرب، وضغوط محلية تتمثل في عملية تهجير عشرات الآلاف من سكان قرى الجنوب اللبناني وخاصة القريبة من الحدود، وما يمثله ذلك من ضغوط معيشية واقتصادية إضافية عليهم، ويثير أيضا خلافات وحساسيات في بعض المناطق.
ولا يمكن هنا تجاهل طرف أساسي في حرب الاستنزاف بين إسرائيل و"حزب الله" هو إيران، فكل الجبهات المساندة لـ"حماس" في الحرب على غزة، سواء في لبنان أو اليمن أو العراق أو سوريا هي تمثل المجموعات الموالية لإيران أو ما يطلق عليه محور الممانعة، ورغم الضربة الكبيرة التي تلقاها الأمن القومي الإيراني باغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران، وتوعد إيران برد نوعي ضخم ضد إسرائيل، إلا أن هذا الرد تأخر كثيرا نتيجة الضغوط الدولية وحتى لا يؤثر على مفاوضات الهدنة في غزة وتحميل إيران مسئولية فشلها.
إلا أن السبب الأهم أن إيران لا تريد أيضا التورط في حرب موسعة قد تكلفها ثمنا لا تستطيع تحمله، فقد قطعت إيران شوطا كبيرا في برنامجها النووي، وتوقع خبراء عسكريون دوليون أن تعلن إيران عن نفسها كقوة نووية خلال عدة أشهر، وهي لا ترغب بالدخول في حرب موسعة تتيح الفرصة لإسرائيل وامريكا لضرب منشآتها النووية والقضاء على الحلم النووي الإيراني، إلى جانب أن الرئيس الإيراني الإصلاحي الجديد مسعود بزكشيان يسعى إلى انفتاح إيراني دبلوماسي على الغرب، وتعهد بتمكين معظم الدبلوماسيين الإيرانيين المؤيدين للعولمة من إدارة أجندته الخارجية، مما زاد الآمال في علاقة أكثر دفئا مع الغرب، وبالتالي لا يريد أن يبدأ عهده بحرب شاملة موسعة قد تقضي على كل آماله في الانفتاح على الغرب، وتخلق واقعا مؤسفا في الداخل الإيراني.
وإذا كان التصعيد المفاجئ بين "حزب الله" وإسرائيل الذي وقع يوم الأحد الماضي، وتبادل الإعلان بين الجانبين عن ضرب أهداف مهمة للطرف الآخر، قد آثار المخاوف من اندلاع حرب موسعة، إلا أن حرص الجانبين على التوضيح بأن ذلك لا يعني الدخول في حرب موسعة هدأ من هذه المخاوف، واعتبر المراقبون ما حدث هو في إطار الضغوط المتبادلة لتحقيق تقدم في مفاوضات إنهاء الحرب في غزة، وسيؤدي هذا التصعيد إلى حرص أطراف كثيرة على إتمام اتفاق غزة حتى لا ينفجر الموقف في الشرق الأوسط ويخرج عن إطار السيطرة.
(الأهرام المصرية)