الحقيقة أنّ السؤال اللافت هو ما الذي يجعل مجتمع يتحوّل في مجمله إلى قبول القتل الجماعي والانتقام الثأري من المدنيين والأبرياء، وما هي البيئة المحلية والإقليمية والدولية التي جعلت القتل وترويع المدنيين هدفًا لحرب إسرائيل في غزّة؟.
ما جرى في أكتوبر أخرج طاقة العنصرية والاستعلاء والكراهية الكامنة داخل المجتمع الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين
نقطة الانطلاق الأولى في طريقة التفكير الحاكمة للعدوان الإسرائيلي هي الثأر من عملية ٧ أكتوبر/تشرين الأول، والذي لم يكن فقط رد فعل على عملية مسلّحة زلزلت كيان الدولة العبرية إنما حكمها أيضًا مرجعية تقول "كيف جرؤتم أيها الفلسطينيون" أن تقوموا بهذه العملية ونحن نعتبركم أغيار ونهتف في شوارعنا "العربي الطيّب هو من مات"، وأن يكون لكم صوت وتجرؤون على الهجوم علينا والتوغل داخل "أرضنا" وتقتلون جنودنا وتأسرون منا العشرات؟، فدولة الاحتلال هي التي من حقها أن تقتل ولا تحاسَب وليس من حق الفلسطينيين أن يردوا أو يأنوا.
معضلة الرد الإسرائيلي على ما جرى في أكتوبر الماضي أنه أخرج طاقة العنصرية والاستعلاء والكراهية الكامنة داخل المجتمع الإسرائيلي والنخبة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وأنه لم يحدث في تاريخ الحروب الاستعمارية المعاصرة أن أصبح الهدف قتل المدنيين وترويعهم دون أي وازع أخلاقي أو دافع سياسي، وتراجعت أهداف الحروب الاستعمارية المعروفة بما فيها أهداف الصهاينة من حرب ٤٨ باحتلال الأرض وطرد الفلسطينيين، وكان القتل وسيلة لتحقيق هذا الهدف، والأمر نفسه ينسحب على باقي حروب الدول الاستعمارية في القرنين الماضيين، حيث كان الاحتلال مرادفًا للسيطرة على أرض أو استغلال اقتصادي وهيمنة سياسية، أما الآن فقد صار هدف إسرائيل هو القتل والترويع بعد أن فشلت ولو مؤقتًا في تنفيذ مخطط التهجير.
أما الجانب الآخر الذي يحكم تفكير دولة الاحتلال فهو نظرتها لجيرانها العرب. هي تعرف أنّ العالم العربي ليس لدية الرغبة ولا القناعة بدخول مواجهه عسكرية مع إسرائيل بما فيه سوريا التي لا زالت أرضها محتلة بعد أن استُنزف جيشها في الحروب الداخلية ولم يعد قادرًا لا على الردع أو المواجهة.
وإذا كان مقبولًا أن يكون الخيار العسكري غير وارد حاليًا في أي مواجهه مع إسرائيل بالنسبة للدول التي حررت أرضها أو لم تُحتل من الأصل، إلا أنّ المشكلة أنّ الخيار المدني السلمي متمثلًا في الحملات القانونية والسياسية والإعلامية في مواجهه جرائم الاحتلال لم تشارك فيها أي دولة عربية وأصبح وزنها الدولي في الدفاع عن القضية الفلسطينية محدودًا مقارنةً ببلدان غير عربية مثل جنوب أفريقيا وتركيا وبعض دول أمريكا الجنوبية، بل وبعض البلدان الأوروبية مثل إسبانيا وإيرلندا.
إسرائيل تعرف قدرات العالم العربي العملية في دعم القضية الفلسطينية وحدود تأثيره الدولي، وتعرف أيضًا حجم مشاكلة الداخلية الاقتصادية والسياسية التي تجعل قدرته على الضغط الإعلامي والقانوني على دولة الاحتلال في حدوده الدنيا.
وأخيرًا فإنّ إسرائيل تعرف أنها دولة محصّنة فوق القانون الدولي، وهي تتمتع بدعم عسكري واقتصادي وسياسي هائل من قبل أكبر دولة في العالم أي الولايات المتحدة، ومتأكدة أنها فوق المحاسبة مهما كان حجم جرائمها، كما أنّ قرارات الشرعية الدولية توقف تطبيقها عند إسرائيل، بل وطُبقت بشكل انتقائي على الدول الأخرى حسب المزاج الأمريكي، فروسيا دولة "مارقة" يجب مواجهتها عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا لأنها غزت أراضي دولة أخرى وخالفت قواعد القانون الدولي، أما إسرائيل فهي دولة مدللة ويُقال عنها ديمقراطية ولا يُطبق عليها أي قرار أممي مهما خالفت قرارات الشرعية الدولية واحتلت منذ أكثر من ٧٦ عامًا أراضي الغير.
تعلم إسرائيل حالة الوهن العربي وتعرف من يرفضون سياستها في العلن وينسقون معها في السر
إسرائيل تعرف أنها الدولة الوحيدة في العالم التي يمكنها أن تقتل الأطفال والنساء دون حساب، وتعرف جيدًا أوزان خصومها وقوتهم الحقيقية على الأرض، فهي تعرف قوة إيران ونقاط ضعفها وتعرف قوة "حزب الله" ونقاط ضعفه وتعرف أيضًا حدود قدرات "حماس" العسكرية، كما تعلم أيضًا حالة الضعف والوهن العربي، وتعرف حقيقة من يرفضون سياستها في العلن وينسقون معها في السر، كما تعرف قوة جماعات الضغط المؤيدة لها وخاصة في أمريكا والدول الأوروبية الكبرى (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) وبناءً على كل هذه الحسابات تمارس جرائمها منذ ما يقرب من عام دون حساب أو قوة ردع.
ورغم كل هذا الصلف والاستعلاء الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا في مقابل ضعف عربي واضح، إلا أنّ حركة الشعوب في مواجهه هذه الممارسات هي ورقة الضغط الحقيقية ضد دولة الاحتلال وستكسرها آجلًا إن لم يكن عاجلًا!.
(خاص "عروبة 22")