بصمات

مقاهي القاهرة الثقافية.. أفولٌ في زمن "المنصّات" (2/1)

في زمن آخر لم يكن لمثقف عربي أن يحصل على الشرعية الأدبية إلا عبر المرور بالمقاهي الثقافية في القاهرة؛ عاصمة الثقافة العربية، لكن الزمن تغيّر فبدا في الأفق وكأننا نعيش آخر شعاع في شمس مغيب هذه الظاهرة، بالتوازي مع ميلاد عصر جديد يعبّر فيه الشباب المصري والعربي عن نفسه من خلال منصات التواصل الاجتماعي التي تسمح بمساحة مشاركة أكبر وأوسع، وتكسر مفهوم "الشللية"، ولا تعترف بسجن الحدود، فتتحوّل جلسات نقاشية على "كلوب هاوس" مثلًا، إلى جلسة على مقهي عربي افتراضي يشارك فيها أشخاص من أنحاء مختلفة في الوطن العربي، أمر لا تستطيع المقاهي الثقافية مجاراته ما حوّلها إلى محض فلكلور.

مقاهي القاهرة الثقافية.. أفولٌ في زمن

طغيان التطوّر التكنولوجي أثّر في المشهد الثقافي، الطرق القديمة هُجرت، عوالم جديدة وُلدت، وسائل التواصل المختلفة منحت مساحات إبداعية للكثيرين، ولم يعد أيّ منهم يحتاج إلى المرور عبر البوابات القديمة، فمشهد الشاعر الذي يجوب مقاهي وسط القاهرة على أمل أن يلتقي بناقد أو صحافي لعلّه يقبل بنشر أعماله لم يعد منتشرًا، إذ إنّ وسائل التواصل ومعها المواقع الإلكترونية وفّرت البديل، في وقت لم يعد مرحبًا فيه سلطويًا بتجمّعات تناقش الثقافة بجوار السياسة والاقتصاد في الفضاء العام، فهاجرت الأغلبية إلى الفضاء الإلكتروني بحثًا عن ملاذات آمنة ليصنعوا من خلالها المقاهي بمواصفات جديدة.

عاشت المقاهي الثقافية عصرًا ذهبيًا منذ نهاية القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، أصبحت أحد محاور صناعة الثقافة العربية انطلاقًا من القاهرة، ثم انتقلت الظاهرة إلى مختلف عواصم الثقافة العربية، فجمال الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم من كبار المثقفين المصريين والعرب التقوا في مقهى "متاتيا" بميدان العتبة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وناقشوا طيفًا واسعًا من القضايا المتعلقة بالنهضة والفكر والسياسة والثقافة والدين، ليرسّخوا ظاهرة الندوة الثقافية التي تحتضنها المقاهي.

من هذا المناخ؛ انطلقت ظاهرة المقاهي الثقافية التي لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل الحركة الأدبية العربية، وهو ما تجلّى في حياة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ اللذين عُرف عنهما عقد ندوة ثقافية في مقاهي القاهرة، والانتقال بها إلى الإسكندرية صيفًا. وعُرف عن محفوظ عقده لجلسات ثقافية في مقاهي "ريش" و"الأوبرا" وغيرهما، وهو تقليد ورثه جيل الستينيات الأدبي، وتوسّع الأمر باستقبال مثقفين عرب عرفوا بداية انتشارهم الأدبي من على كراسي مقاهي "وسط البلد" بالقاهرة، أمثال الشاعر الفلسطيني محمود درويش والروائي السوداني الطيب صالح.

زيارة بقايا المقاهي الثقافية أصبح نوعًا من أنواع السياحة بلا أي عمق حقيقي

لكن هذا الميراث الطويل للنشاط الثقافي يبدو أنه يعرف فصوله الأخيرة حتى في مدينة بضخامة القاهرة، فخلال العشرية الماضية تراجعت هيمنة المقاهي الثقافية على الحركة الأدبية، انزوت هذه الظاهرة في مقهى "زهرة البستان" بوسط القاهرة، والذي تحوّل هو الآخر إلى مكان مفتوح للقاء الأصدقاء أكثر منه مقهى يشهد عقد ندوات وجلسات نقاشية موسّعة، لذا يحتفظ المكان بذكرى باهتة جدًا لعالم المقاهي الثقافية الذي ولّى، زمن كانت المقاهي الثقافية محرّكة للحركة الأدبية ومنتدى لعقد الندوات وتدشين الكتب، ولم نعد نسمع الآن عن ندوة أسبوعية في مقهى كما كان يفعل نجيب محفوظ مثلًا.

أصبحت زيارة المقاهي ذات الشهرة الغاربة نوعًا من الفلكلور أكثر منها طقسًا حقيقيًا للتعميد والعبور في الحياة الثقافية كما كان سابقًا. الكثير من المبدعين العرب يحرصون على زيارة بقايا المقاهي الثقافية كنوع من أنواع السياحة بلا أي عمق حقيقي، مجرّد لقاء مع أصدقاء مصريين أو عرب تصادف تواجدهم في القاهرة في الوقت نفسه، وليس عقد ندوة ثقافية في مقهى؛ مفتوحة المحاور مع أشخاص عابرين.

ضربة قوية تلقّتها المقاهي الثقافية في إطار موجة تحوّل جديدة في المزاج العام

التراجع الملحوظ في نشاط المقاهي الثقافية ربما يظهر بوضوح في التقارير الصحافية التي ستجدها عند محرك البحث جوجل، إذ تجد أنها مبنيّة على نوستالجيا زمن كانت المقاهي تلعب فيه دورًا حقيقيًا في الثقافة العربية، تستدعي هذه التقارير بنغمة حزينة ذكريات وأسماء مقاهي إما فقدت دورها مثل مقهى "الفيشاوي" الذي غرق في المظهرية السياحية الفارغة، أو لم تعد موجودة أصلًا مثل مقاهي "متاتيا، الرتز، والكتبخانة"، والأخير جلس عليه توفيق الحكيم وشاعر الشباب أحمد رامي يومًا، لكن موضعه الآن قد صار أطلالًا بعد هدمه.

ربما يعبّر عن ذلك التراجع بصورة جلية إغلاق أبواب مقهى الندوة الثقافية في منطقة وسط القاهرة العام الماضي (2022)، بعد حكم قضائي بسبب نزاع الورثة، لتفقد القاهرة معه واحدًا من أشهر مقاهيها الثقافية منذ ستينيات القرن العشرين. ويبدو أنّ الضربة القوية التي تلقّتها المقاهي الثقافية تأتي في إطار موجة تحوّل جديدة في المزاج العام، وهو أمر تعرّضت له المقاهي من قبل، إذ كانت يومًا معقلًا لفنون الربابة وخيال الظلّ والحكواتية، قبل أن تنقرض هذه الفنون من المقاهي مع تطوّر الحياة وظهور الراديو ومن بعده التلفزيون بالتوازي مع تطوّر الحياة الأدبية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن