واقع سوريا في ظل نظام الأسد واقع مشتت. إذ هي موزعة على ثلاثة من سلطات الأمر الواقع، يتقدمها نظام الأسد، تكرّس تجاذبات داخلية حادة، وسلطات متعارضة، يسعى كل منها إلى تأكيد حضوره، ويعمل على استمرار وجوده عبر ارتباطات خارجية، دون تفكير يتجاوز ما خلّفته سنوات الصراع السوري.
وباستثناء ملايين القتلى والجرحى والمفقودين من ضحايا الحرب على السوريين، فإنّ عدد المقيمين في مناطق سيطرة النظام لا يزيد عن ثلث السوريين، والباقون موزعون بين المناطق الخارجة عن سيطرته في الشمال، ويقدّر عدد اللاجئين الموزعين في المحيط العربي والدولي بأكثر من 12 مليون نسمة. وتثير هذه الأرقام الأسئلة عن قدرات النظام في تأمين قدرات بشرية تدير الدولة، وتلبي احتياجات المجتمع الانتاجية والخدمية الأساسية، وكلها باتت تفتقد الإمكانيات المادية والبشرية، بعدما هاجر أغلبهم هربًا من الأوضاع الأمنية والسياسية، ومن الفقر وتدهور مستويات الحياة.
تقاسم حلفاء النظام الروس والايرانيون ثروات سوريا بما فيها من نفط وغاز وفوسفات وموانئ ومطارات
ويزيد من تردي الوضع في مناطق سيطرة النظام، تكريس ثلاث ظواهر:
أولها، فرض مزيد من الضرائب والرسوم من أجل تمويل آلته العسكرية - الأمنية، التي أطلق يدها في النهب والتعفيش، وإدارة نظام الخوّات واللجوء إلى المصادرات خلافًا للقانون.
الثانية، قيام أركان النظام عبر واجهات من أتباع يجري تبديلهم باستمرار بالسيطرة على الأنشطة الاقتصادية ولا سيما على قطاعي التجارة والخدمات، مما أدى إلى مراكمة الثروة في مركز السلطة وحواشيها، وإشاعة وتعميم الفقر في أوساط بقية السوريين الذين تتجاوز نسبة الفقراء منهم 92 بالمائة.
الثالثة، إصرار النظام على مواصلة سياساته في رفض ما يطلبه الواقع من تغيّرات سياسية، والاستمرار في روايته عن الصراع السوري بوصفه مؤامرة دولية، وتطرّف وإرهاب، ما يعني رفضه الذهاب إلى حلول في المدى المنظور، وليس مِن السوريين مَن يمكنه تقدير نهاية الكارثة القائمة، ووضع سوريا والسوريين على سكة سلام وحل وإعادة بناء البلد.
نيران تحت الرماد في علاقة النظام مع الإيرانيين ومليشياتهم وبدرجة أقل مع الروس
لقد تقاسم حلفاء النظام الروس والايرانيون ثروات سوريا بما فيها من نفط وغاز وفوسفات وموانئ ومطارات، وحققوا مكاسب ومزايا عبر اتفاقيات وتغييرات قانونية، ونتيجة سياسات الأمر الواقع، وجميعها تشكّل بعضًا من ثمن مواقفهم إلى جانب النظام في الحرب، ومن أجل تأمين بقائه، وهي جهود لم تقتصر على الجانب العسكري الذي قدّمته إيران ومليشياتها على الأرض، ووفر الروس له القوة الجوية الداعمة والحاسمة، وقدّم الحليفان الإيراني والروسي له مساعدات متعددة وقروض، غير أنّ ظروفهم تغيّرت وأبرزها مشاكل إيران وصراعاتها في الشرق الأوسط، وانخراط روسيا في حرب أوكرانيا.
لقد بات الروس والايرانيون أقل قدرة على دعم نظام الأسد، ليس فقط بسبب ظروفهم، ومقدار ما صار لهم من ديون على النظام، إنما نتيجة سياسات النظام للتملص من التزامات توافق عليها مع الإيرانيين والروس، ومحاولات اللعب على الطرفين، وتحجيم المقرّبين منهم داخل بنية النظام، بل إنّ الايرانيين ومليشياتهم ألمحوا إلى دور أطراف في النظام في اغتيال بعض قياداتهم في سوريا من جانب إسرائيل، وكلها عوامل أشعلت نيرانًا تحت الرماد في علاقة النظام مع الإيرانيين ومليشياتهم وبدرجة أقل مع الروس، غير أنّ انفجار علاقات النظام مع حلفائه، قد يتأخر لحرص ومصلحة الأطراف كلها على عدم إعلانه وإبقائه مشكلة مخبأة.
لا يستطيع النظام الاستمرار في وضعه الحالي الذي لا يوافق عليه الحلفاء ولا يقبله الخصوم
وبالتوازي مع تدهور علاقات النظام مع حلفائه، تصاعدت في الأعوام الثلاثة الأخيرة مساعي دول عربية وأجنبية محسوبة في قائمة خصوم النظام من أجل انفتاح عليه على طريق تحوّل بطيء، يقرن عودة العلاقات معه باشتراطات خطوات منه تؤدي إلى حل للقضية السورية ومعالجة تداعياتها، وهو ما تضمنته مبادرة تركيا سعيًا إلى إعادة علاقاتها مع النظام، ومثلها مبادرة المجموعة العربية للانفتاح عليه وفق منظومة خطوة مقابل خطوة، وآخر المبادرات قامت بها مجموعة دول أوروبية لإعادة إحياء العلاقات مع نظام الأسد، وقد أثمرت المبادرات قدرًا متواضعًا من النتائج، منها عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وإعادة قليل من السفارات العربية والأجنبية في دمشق، ومن الواضح أنّ الأسد لا يستطيع تجاوز هذه النتائج خوف إغضاب حلفائه، والذهاب نحو نهايته.
يثير حال النظام اليوم كثيرًا من الأسئلة حول راهنه ومستقبله وكلاهما مرتبط بخياراته وعلاقاته. ومن المؤكد أنه لا يستطيع الاستمرار في وضعه الحالي الذي لا يوافق عليه الحلفاء، ولا يقبله الخصوم ومنهم الذين يسعون إلى علاقات جديدة مع نظام يرفض أن يبدّل أيًا من مواقفه وتوجهاته.
(خاص "عروبة 22")