بصمات

المفكّرون العرب والمشاريع الاستراتيجية الإيرانية والتركية والإسرائيلية! (1/2)

تتأسّس هذه المقالة على فرضيتين: تفيد الأولى أنّ المنطقة العربية وبالتالي صنّاع القرار في المنطقة، محاصرون بثلاثة مشاريع استراتيجية على الأقل، في السياق الإقليمي، فالأحرى الضغوط الخاصّة بالقوى العالمية: المشروع التركي والمشروع الإيراني والمشروع الإسرائيلي. وتفيد الفرضية الثانية أنّ النخبة الفكرية العربية، واعية بشكل أو بآخر بمقتضيات الفرضية السابقة.

المفكّرون العرب والمشاريع الاستراتيجية الإيرانية والتركية والإسرائيلية! (1/2)

على ضوء هذا الوعي، وبالتالي، انطلاقًا من الفرضيتين أعلاه، نتوقف في المقالة عند بعض معالم التناول النظري لهذه النخبة الفكرية مع هذه الإكراهات، ما دامت تتحمل مسؤولية علمية موازاةً مع المسؤولية الأخلاقية، بخصوص قراءة ما يجري، والمساهمة في طرح مقترحات ورؤى نافعة للعقل الجمعي في المنطقة.

قد تعترض بعض أقلام الساحة، على أنّ الأمر لم يصل بعد إلى الحديث عن مرور المنطقة من صراعات استراتيجية إقليمية بين تلك القوى الثلاث، ويمكن أن يصدر هذا الاعتراض على سبيل المثال عن بعض الأقلام الإسلامية الحركية، مع أنّ هذا المعطى يكاد يكون "تحصيل حاصل" بتعبير المناطقة، ولذلك ارتأينا الحديث عن فرضية، حتى نترك جانبًا تبعات هذا الاعتراض، أقلّه أنّه يُشوش على أهمية الانتباه إلى ثقل هذا الصراع وتأثيره على أداء صنّاع القرار في تدبير قضايا الساحة، وليست تبعات ما 7 بعد أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي يمكنها تقويض هذا الزعم، بل إنّ التبعات نفسها تؤكد مضامين الفرضية الأولى.

هاجس الدفاع عن المصالح العليا المشتركة كان حاضرًا بشكل جليّ في خطاب الأقلام التي تنهل من مرجعية قومية

لا يمكن فصل موقف الأسماء الفكرية العربية عن أفقها النظري أو المرجعية النظرية التي تنهل منها، ومن ذلك مثلًا، لن تخرج مواقف الأقلام التي تنهل من مرجعية إسلامية حركية في مواقفها هذه عن مقتضى وتأثير أدبيات الإسلام السياسي، حيث حضور مفاهيم الأمّة والجماعة وحلم "الدولة الإسلامية" أو "دولة الخلافة" و"الحاكمية" وباقي المفاهيم اللصيقة بالخطاب الإسلامي الحركي بشكل عام.

الأمر مختلفٌ مع الأقلام التي تنهل من مرجعية قومية، حيث كان هاجس الدفاع عن المصالح العليا المشتركة حاضرًا بشكل جليّ في خطاب هذه الأقلام، بدليل أخذهم مسافة من خطاب التفرقة والصراعات بين دول المنطقة، مقابل الانتصار لخطاب الوحدة ولمّ الشتات.

ليس صدفة أنّ مشاريع الحوار القومي الإسلامي، والتي كانت حاضرة بقوة قبل أحداث 2011، تراجعت بشكل كبير مباشرة بعد اندلاع تلك الأحداث، وهذا مثالٌ نموذجيٌ ويُلخّص بشكل كبير أهم التوجهات الفكرية العربية في معرض التعامل مع القضايا العربية المصيرية في مواجهة المشاريع الثلاثة أعلاه: المشروع التركي والمشروع الإيراني والمشروع الإسرائيلي.

كانت الأقلام الإسلامية الحركية المنخرطة في فعاليات الحوار القومي الإسلامي، من الفعاليات المدافعة عن قضايا الهم العربي المشترك، في مواجهة المشروع الإسرائيلي على الخصوص، مقابل التريث أو الإبقاء على "شعرة معاوية" في معرض التعامل مع المشروعين الإيراني والتركي، لكن اندلاع أحداث 2011، تسبب بدايةً في ظهور انقسامات بين مجمل الفعاليات الفكرية بخصوص التعامل مع تلك الأحداث، ومن الأهمية التدقيق في مواقف النخب الفكرية العربية من هذه الأحداث بالذات.

بل نذهب إلى أنّ حقبة ما قبل 2011، كانت تتميّز ببعض المجاملة أو الازدواجية أو تبني خيار الكمون في معرض التعامل مع قضايا دول المنطقة العربية، وبالتالي أداء المشروع العربي - إن صحّ الحديث عن مشروع عربي مشترك، بمقتضى تأثير بعض الخلافات السياسية القائمة - بخلاف الأمر مع الوضوح الذي أصبح عنوان مواقف النخب الفكرية نفسها، مباشرةً بعد اندلاع تلك الأحداث.

التنظير لتفكيك دول المنطقة أصبحنا نعاينه حتى في عقر المنطقة العربية من قبل أقلام تنهل من عدة مرجعيات

ليس هذا وحسب، أكدت أحداث 2011 للعديد من الأنظمة العربية أنّ التنظير لتفكيك دول المنطقة، سواء كان تنظيرًا صريحًا في الإعلان عن ذلك أم لا، لم يكن يهم بعض الأقلام الفكرية الغربية على سبيل المثال، من قبيل بعض غلاة الاستشراق بالأمس أو بعض رموز الاستشراق الجديد اليوم، سواء في الساحة الأميركية أو الأوروبية، وإنّما أصبحنا نعاينه حتى في عقر المنطقة العربية، من قبل أقلام تنهل من عدة مرجعيات.

كانت مرجعية "الإسلام السياسي" في مقدّمة هذه المرجعيات بالرغم من حديث العديد من رموز هذا التيار عن الوسطية والاعتدال والدفاع عن الدولة الوطنية الحديثة، أو اشتغالهم على قضايا الأخلاق والتصوّف والحق في الاختلاف والحوار، وما جاور هذا الخطاب النظري الذي كان يبدو أنّه مثالي، قبل أن يتضّح أنه أقرب إلى خطاب التنويم، وذلك من فرط الأمثلة التي كشفت عنها تفاعلات العديد من هذه الأسماء مع الأحداث نفسها، وبالتالي، كشفت مواقفها من المشاريع التركية والإيرانية والإسرائيلية في مواجهة القضايا العربية المصيرية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن