بصمات

العربية بين الشعر والرواية

كل نهضة، في آن معًا، تطلع إلى المستقبل وعودة إلى الماضي. هذا ما نعرفه عن النهضة الأوروبية التي أسست للعصور الحديثة، تطلع رجالاتها إلى الماضي ونسبوا أنفسهم إلى الحضارة اليونانية في فنونها وأفكارها. والنهضة العربية التي أرادت أن نستوعب الحداثة الطارئة من أوروبا في مفاهيمها وقيمها ومؤسساتها، عادت إلى التاريخ اللغوي والأدبي والفكري، وقد وجد نهضويو العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الشعر من الجاهلية إلى العصر الأموي ثم العباسي مرجعًا لغويًا كانت تحتاجه العربية الفصحى من أجل استيعاب القيم الحديثة.

العربية بين الشعر والرواية

شعراء النهضة ما كانوا مجرد مقلّدين لأمرؤ القيس والنابغة الذبياني ولا جرير والفرزدق ولا أبو تمام والمتنبي. فإذا كانوا قد أعادوا الوزن والقافية إلا أنهم لم يستعيدوا موضوعات الفخر والمدح والذّم. بل نجد لدى الشعراء اللبنانيين المبكرين أمثال إبراهيم اليازجي تضمين القصيدة معنىً جديدًا للعروبة، والانتساب إلى اللغة العربية، يقول قيصر المعلوف: "من ينتمي للضاد فهو أخ لنا، فالأم واحدة بكل مكان". ويقول خليل الخوري: "لغة تُجمّلها البلاغة والعلى بذكائها نفس اللغات تطيبا".

وسرعان ما اتخذت القصيدة منحى جديدًا في تعبيرها على الوطنية وهذا ما نجده عند محمود سامي البارودي، الذي نُفي مع أحمد عرابي بعد الثورة "العرابية" إلى سيريلانكا. وتأكدت معاني الوطنية مع شعراء أمثال حافظ إبراهيم وأحمد شوقي في مصر والجواهري في العراق والشابي في تونس.

تراجع الشعر ليس في العربية ولكن في كل لغات العالم

كان الشعر رائدًا في التعبير عن المشاعر الوطنية وخصوصًا في حقبة التحرر الوطني وهذا ما نجده عند مفدي زكريا مؤلف النشيد الوطني الجزائري.

وبعد النكبة الفلسطينية برز شعراء العودة وعلى رأسهم هارون هاشم رشيد ومعين بسيسو وصولًا إلى شعراء المقاومة محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد.

لكن الشعر لم يقتصر على الجانب الوطني، فقد نظم أحمد شوقي القصيدة القصصية والمسرحية، ونظم الأخطل الصغير في الوجدانيات، وسعيد عقل في الوطنية والوجدانية والعاطفية وكتب آخرون في الموضوعات الإنسانية.

ولا بدّ من الإشارة إلى شعراء الأربعينات والخمسينات أمثال نزار قباني في شعره الذي خصصه للمرأة كما خصص قصائد كثيرة لأحوال العرب. وبدر شاكر السياب وشعره المشبع بالحزن والتعبير عن المشاعر الإنسانية إلى نازك الملائكة، ومن مصر صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي.

هذا الشعر الحديث تعلم عليه طلبة المدارس في كل البلدان العربية، اللغة والمشاعر الحديثة إضافة إلى تعلّمهم للشعر الكلاسيكي. كانت ميزة الشعر قدرته على التعبير عن المشاعر والقيم من الوطنية إلى الوجدانية والعاطفية، لكن عاهته أنه شفاهي ومنبري وخطابي. أما الشعر الحديث الذي أراد أن يتحرر من الوزن والقافية والتفعيلة فمشكلته أنه أراد أن يستنسخ تجارب الغرب من ت.س. اليوت إلى عزرا باوند إلى سان جون بيرس، باسم الحداثة، فتراجع الشعر ليس في العربية ولكن في كل لغات العالم. هذا التراجع يعزى إلى نخبوية الشعر الحديث، وإلى بروز الرواية التي أقتحمت مساحات تعبيرية لم يستطع الشعر أن يدخلها، مثل تعقيد الحياة الاجتماعية وصراع الأجيال والتطورات السياسية وغيرها.

ومنذ نهاية القرن التاسع عشر عرفت العربية الأسلوب الروائي مع جرجي زيدان ومصطفى لطفي المنفلوطي وزينب فواز ومحمد حسين هيكل، كما أسهم اللبنانيون من جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة إلى أمين الريحاني وصولًا إلى توفيق يوسف عواد في تطوير أساليب النثر العربي الحديث.

أهمية الرواية أنها تخطت زمن الخطابة والمنبرية

وإن كانت الرواية في بداياتها قد احتلت مساحة محدودة أمام المساحة الواسعة التي يشغلها الشعراء الكبار، لكنها سرعان ما حصدت شعبية ما انفكت تتوسع مع المصريين مثل يحي حقي صاحب قنديل أم هاشم، ونجيب محفوظ صاحب الثلاثية، ويوسف السباعي في السقّا مات ويوسف ادريس في الندّاهة والحرام وإحسان عبد القدوس في النظارة السوداء. استطاعت الرواية مع هؤلاء وغيرهم أن تقدم مساهمات في القضايا الاجتماعية والسياسية والحياة العائلية فضلًا عن قدرة الرواية على توجيه رسائل نقدية وتحولت روايات كثيرة إلى شرائط سينمائية، فصارت موضوعاتها تصل إلى جمهور عريض.

وأهمية الرواية أنها تخطت زمن الخطابة والمنبرية. كان الشاعر نجمًا يستمع اليه الجمهور الذي يتماهى مع صورته. أما الرواية فإنها تتطلب مشاركة القارئ، بينما الروائي يتوارى خلف الشخصيات التي صاغها.

في الوقت الذي انحسر فيه جمهور الشعر، حدث انفجار روائي في العالم العربي. ولم يعد يقتصر كتّاب الرواية على أسماء معدودة، والروايات التي تُكتب سنويًا في العالم العربي تُعّد بالآلاف، تتجول من بلد إلى بلد وتتنقل من مدينة إلى أخرى، بحيث أصبحت الرواية صلة الوصل بين القرّاء العرب.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن