وجهات نظر

أن تُفاوض إسرائيليًا: "العربي".. الذي غادرنا

نبيل العربي؛ الدبلوماسي/القانوني المحنك. وزير خارجية يناير، والأمين السابق لما كان جامعة للعرب، والمفاوض، ذو الخبرة الطويلة، مع ذلك "الإسرائيلي المراوغ" بطبعه، وإرثه، رحل عنا قبل أيام بعد رحلة طويلة مع المرض، تاركًا خلفه إرثًا قانونيًا، ودبلوماسيًا، وتفاوضيًا، يستحق في الأيام العربية الصعبة أن نتذكره، ونتذاكره.

أن تُفاوض إسرائيليًا:

لولا مرضه الأخير، لحرصتُ على أن أجلس معه لأسأل المفاوض المخضرم عن أولئك الذين طالما فاوضهم، وكيف يرى "دراما" مسلسل مفاوضات وقف إطلاق النار في غزّة المستمرة للأسبوع الأربعين دون جديد غير تصريحات أمريكية مراوغة لجو بايدن، وكل أركان إدارته تشتري الوقت لصالح العملية العسكرية الإسرائيلية التي لا تنتهي.

يعرف نبيل العربي بخبرته، المفاوض/المراوغ الإسرائيلي جيدًا، منذ كان مستشارًا قانونيًا للوفد المصري في مفاوضات كامب ديفيد (1978)، وحتى تمثيله لمصر كوكيل لها أمام هيئة التحكيم الدولي بشأن طابا (1986)، بعد أن فشلت المفاوضات في استعادتها، أو بالأحرى في إعادة "مغتصبها" إلى الحدود الدولية (الجغرافية، والتاريخية) المعترف بها قانونًا.

في قصة نبيل "العربي" ذاتها بعض من فصول قصة "العرب" في سنواتهم الأخيرة

في كتابه المهم عن "ماراثون" المفاوضات هذا، وعن "زئبقية" المفاوض الإسرائيلي المراوغ، سواء بشأن طابا، أو حتى قبلها في كامب ديفيد (الاتفاقية، والمزرعة) يحكي لنا نبيل العربي كيف تعمد مناحيم بيجين يومًا المماطلة والتسويف لإضعاف الموقف المصري في أي مفاوضات لاحقة لذهاب الرئيس السادات إلى القدس (نوفمبر 1977)، بإفشال ممنهج لاجتماعات اللجنتين السياسية والعسكرية المكلفتين بإعداد ما يلزم لاتفاق السلام المنشود، وكيف استمرت تلك المماطلة والتسويف و"المراوغة" لعام كامل قبل الذهاب إلى كامب ديفيد.

بعض التفاصيل (الجغرافية) لألاعيب المفاوض الإسرائيلي/المراوغ في قضية طابا كان قد حكاها لي د. يوسف أبو الحجاج، أستاذ الجغرافيا وأحد جنود معركة استعادة الحقوق المصرية، وكنتُ قد التقيته قبل سنوات طويله بمنزله (الجامعي) شديد التواضع في حي الدقي القريب من جامعة القاهرة. يومها حكى لي (بالخرائط) كيف قام الإسرائيليون بشق طريق يربط بين طابا وأم الرشراش (إيلات)، ربما لا لسبب إلا لتغيير المعالم المساحية المسجلة للمنطقة وإزالة جزء من الهضبة التي توجد عليها علامات الحدود. بل وكيف مسح الإسرائيليون (الصفر) عمدًا من على العلامة رقم (90) للإيهام بأنها رقم (91)، وأن عوامل التعرية هي التي تسببت في إزالة (الواحد).

قد تبدو القصة تفصيلية، ولكن الذين يعرفون الجغرافيا، وخاضوا المعركة الدبلوماسية القانونية مع نبيل العربي يعرفون أنها كانت الحاسمة بشأن قرار إعادة طابا إلى أصحابها المصريين.

يحكي لنا نبيل العربي أيضًا في كتابه قصة/عقبة فندق طابا الشهير، والتي بدا أنّ إقحامها في ملف المفاوضات لم يكن أكثر من استخدام معهود لما اعتاده الإسرائيليون حين تعوزهم الحجة في هذه المفاوضات أو تلك. وهو ما نراه الآن جليًا فى مفاوضات وقف إطلاق النار في غزّة، والتي تاهت لأسابيع وأشهر في تفاصيل تولد غيرها كل يوم، من قبيل تلك الضجة الإعلامية حول محور صلاح الدين (فيلادلفيا) الذي أدخلوا قواتهم إليه انتهاكًا لما تقرره اتفاقات كامب دافيد وملاحقها الموقعة مع مصر.

ترك "العربي" جامعة "العرب" وترك السؤال حول حقيقة "عروبتها" قائمًا

يبقى أنّ في قصة نبيل "العربي" ذاتها بعضًا من فصول قصة "العرب" في سنواتهم الأخيرة. فمع ما بدا "ربيعًا عربيًا" أصبح العربي عضوًا في حكومة الثورة (حكومة عصام شرف) التي جرى تشكيلها بعد ثورة يناير 2011 والتي وصفها في مقدمة كتابه بأنها "جعلت كل مصري يفخر بمصريته ويرفع رأسه عاليًا"، وكما لم يطل بقاء الثورة ولا حكومتها ولا "أحلامها"، ترك الرجل منصبه بعد أشهر إلى جامعة العرب "محاولًا"، إلا أنّ حقائق ما بعد إجهاض الربيع العربي كانت غالبة؛ تطبيعًا، واستقطابًا، واسئثارًا من الحكومات (والحكام) بمصائر الشعوب. فكان أن ترك الجامعة بعد فترة واحدة على غير ما درجت عليه العادة.

ترك "العربي" جامعة "العرب"، وترك السؤال حول حقيقة "عروبتها" قائمًا، بعد أن رأيناها عجزت عن اتخاذ قرار يستحق أن يوصف بأنه "عربي"، بشأن ما يحدث في غزّة "العربية". فكان أن شهدنا في أمريكا اللاتينية قرارات لم يتخذها العرب، سحبًا لسفراء، أو قطعًا للعلاقات، أو على الأقل تهديدًا بها.

نتذكّر تصريحه بأنّ "كامب ديفيد ليست مقدّسة" ونحن نرى إصرارًا إسرائيليًا "متغطرسًا" على انتهاك "كامب ديفيد" وملاحقها

ربما لم يكن لتصريحه الشهير بأنّ "كامب ديفيد ليست مقدّسة"، والذي لم يتردد في قوله وهو في منصبه الرسمي كوزير لخارجية الثورة، علاقة مباشرة بمغادرته لهذا المنصب (الرسمي) أو ذاك، ولكن لا يسعنا إلا أن نتذكّر هذا التصريح/الحقيقة ونحن نرى إصرارًا إسرائيليًا "متغطرسًا" على انتهاك "كامب ديفيد" وملاحقها باحتلالها العسكري لمحور صلاح الدين (فيلادلفيا)، وتأكيد هذا الإصرار/الانتهاك يوميًا ليس فقط بتصريحات لرئيس وزراء إٍسرائيل، بل بقرار رسمي جرى التصويت عليه.

وبعد،،

ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فلربما علينا ونحن نودع فارس معركة طابا (التفاوضية/لا العسكرية) أن نذكر بأنّ النصر فيها كان بما تعلّمه جنودها في "مدرسة الدبلوماسية المصرية"، وفي كتب القانون والتاريخ الجغرافيا التي بات لدينا اليوم للأسف من لا يريد لنا أن نتعلّمهما.

رحم الله نبيل العربي، وأدام لنا ما عرفناه في تجربته التفاوضية الثرية من قيمة للدبلوماسية الحقيقية، ولكتب الجغرافيا والتاريخ.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن