لأوَّل مرة منذ بداية استعادة الدول الإفريقية سيادتها في ستينيات القرن الماضي يتم التلويح بالحرب من قبل قوى دولية أخرى ضد سلطة جديدة وصلت إلى الحكم في بلادها، كم تغيير في السلطة حدث في البلدان الافريقية؟ كم رئيس تمت الإطاحة به بطريقة أو بأخرى، من دون أن يتم التهديد بالحرب لإعادته إلى الحكم؟ لماذا اليوم يجري التهديد بالحرب في النيجر بالذات؟ ولماذا تدعم قوة استعمارية سابقة -أي فرنسا – هذا التهديد، بل وتضع نفسها في مقدمته إعلاميًا وسياسيًا؟
يبدو أن المسألة تتعلَّق بطبيعة الوضع الدولي الذي حدث فيه التغيير في النيجر في الأيام الماضية أكثر من طبيعة التغيير ذاته. لقد كانت فرنسا خلف عشرات الانقلابات والاغتيالات العسكرية والحكم غير الدستوري في إفريقيا منذ أكثر من 60 سنة، ولم تعتبر ذلك مُخالِفا للديمقراطية ولا للقانون الدولي ولا لحقوق الانسان ما دامت هي مَن ترعى ذلك وتَعتبر أن مصالحها مضمونة جراء ذلك… لماذا لم تتجه، كما هذه المرة، إلى قرع طبول الحرب تجاه بلد ومنطقة هي في حاجة إلى استقرار أكثر من أي وقت مضى؟
بات واضحًا أن الظرف الدولي الذي تتطور ضمنه الأحداث اليوم، في منطقة الساحل والنيجر آخرها، هو الذي جعل الفرنسيين يشعرون بأنّ هيمنتهم قد وصلت إلى المربع الأخير، وأن فقدانهم النيجر يعني خروجهم من القارة نهائيًا، ثم بداية خروج حلفائهم الغربيين الذين طالما قدّموا أنفسهم لهم بأنهم سادة القارة، والمُتحكِّمون في نُخبها، والقادرون على فهم أسرارها وبخاصة عند تعاملهم مع الأمريكيين.. كل هذا بدأ ينهار اليوم. الدولة التي بها أكبر القواعد العسكرية الفرنسية، والتي تحاول تجميع بقايا جنودها المطرودين من مالي وبوركينا فاسو، باتت هي الأخرى رافضة للفرنسيين وتعلن فسخ جميع الاتفاقيات العسكرية التي تربطها بدولتهم.. لذلك لم يبق لهذه الدولة إلا العمل على إشعال نار الحرب، لعلها تُبقي لديها بعض الأمل في البقاء.
وأكثر الإشارات المعبِّرة عن تأثير الوضع الدولي الراهن على إصرار الفرنسيين على إشعال نار الحرب في المنطقة، هي حمل المتظاهرين في النيجر أعلام روسيا الاتحادية إلى جانب أعلام بلدانهم، بما يدل ليس على الولاء لقوة دولية جديدة، إنما على أن الرايات الغربية كانت وما زالت هي سبب البلاء في بلدانهم، وأنَّهم قد ضاقوا ذِرعا بها… بل غير مستعدين لحملها حتى في فرنسا ذاتها.. هل يُتصوَّر أن يتظاهر شابٌّ إفريقي اليوم بالعَلم الفرنسي في باريس مثلًا، وهو يعلم مَن يكون سبب بؤسه الحقيقي، ومَن يدعم ويحمي الذين منعوا وما زالوا يمنعون بلده من أن تخطوَ خطوات حقيقية نحو الخروج من التخلف؟
هذا الإدراك والوعي المتزايد اليوم، هو الذي يدفع غلاة الاستعمار القديم والحديث إلى قرع طبول الحرب في إفريقيا، ليتقاتل الإخوة والأشقاء والجيران فيما بينهم، ويتمكنوا هم في آخر المطاف من استعادة مكانتهم المهيمِنة وقدرتهم على مزيد من استغلال ثروات هذه المنطقة، تحت غطاء بناء ديمقراطيات مُزيَّفة، وأشكال من الحكم المدني التابع المُستعِدّ لخدمة مصالح الغرب أكثر من مصالح شعوبه المقهورة..
لذلك، لا بديل للأفارقة جميعًا، ومن بينهم نحن، عن منع وقوع مثل هذه الحرب على الجارة النيجر بكل الوسائل، وأنه إذا كان من حلٍّ للأزمة التي تمر بها النيجر فليس سوى الحوار الداخلي بين أبنائه بعيدًا عن أي تجاذبات خارجية. وهذا الحوار لن يكون مجديًا أبدًا ما لم تغادر القواعد الفرنسية والأجنبية المنطقة، فالدّاعون إلى المدنية والديمقراطية أولى بهم إخلاء المنطقة من القواعد العسكرية أداتهم للهيمنة، وأولى بهم التوقف عن قرع طبول الحرب التي سيكون وقودها أبناء البشرة السمراء لا أبناءهم… لقد انتهى عهد استخدام الأفارقة ضد بعضهم البعض لأجل مصالح الآخرين.. وانكشفت جميع ألاعيب الغرب حامل كل الشرور قديمًا وحديثًا.
("الشروق" الجزائرية)