عندما سُئل أندرياس فوسكولة، الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية في ألمانيا، عن رؤيته لمستقبل الديموقراطية على ضوء التحدّيات الحالية، أجاب: "أشعر بقلق على ضوء التطورات الأخيرة. ليس هناك ضمانة لاستمرار بقاء نظامنا الدستوري الديموقراطي الليبرالي على المدى البعيد. الديموقراطية تحتاج إلى ديموقراطيين يجتهدون من أجلها"، فهل فقدت الديموقراطية جمهورها ومن يرفعونها كمطلب ويعتمدونها كخيار وحيد لتدبير التنافس والصراع على السلطة؟ أم أن الديموقراطية لا تصلح للمجتمعات الجاهلة، لأن الأغلبية الجاهلة هي التي ستقرّر مصيرك، كما قال الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف؟
يخلّد العالم بعد غد الأحد 15 أيلول (سبتمبر) اليوم العالمي للديموقراطية في سياق دولي يتّسم بتراجع الاهتمام بقضايا الديموقراطية، بل بتراجع القيم والمبادئ الديموقراطية في إطار تطبيع عام مع هذه الوضعية، ما ينذر بمخاطر كبيرة على مستقبل التنافس على السلطة في عدد كبير من دول العالم، ما يُسهم في تهديد السلم والاستقرار في أكثر من مكان في العالم. هذه المناسبة الدولية، التي فقدت زخمها وإثارتها بحكم القبول المستمر بمظاهر السلطوية، تعيد الحاجة إلى إعادة اكتشاف عملية الانتقال إلى الديموقراطية التي تعثرت فيها كثير من الشعوب والدول.
ينظر غي هيرمي (Guy Hermet) إلى الانتقال الديموقراطي باعتباره أمراً بسيطاً ومعقّداً في نفس الوقت، حيث تمّ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من دون وعي، بهدف التحولات التي عرفتها المجتمعات الغربية. أما بعد ذلك، فعملية التحول أو الانتقال إلى الديموقراطية تمّت في أغلبيتها بوعي تام، وبإرادية مقصودة. والانتقال الديموقراطي عملية تتعلق بالوقت أكثر من تعلقها بما تدلّ عليه بالفعل، وينطوي ذلك على بعض من الغموض. إنه يمثل الفترة المتغيّرة من الوقت الذي ينقضي بين سقوط نظام واللحظة التي يصبح فيها النظام الذي يحلّ محلّه مسيطراً تماماً على السلطة، وهو النظام الديموقراطي، وتنتهي عملية الانتقال عندما تُقيم هذه الديموقراطية لنفسها المؤسسات الشرعية والدستورية، ويحصل القادة الديموقراطيون فيها على الاعتراف بسيطرتهم من جانب الجيش أو المؤسسات، ما يجعل من الممكن انتقال السلطة. يظهر هذا جلياً في أكثر من بلد خاض غمار تجربة الانتقال الديموقراطي حيث تحضر القواعد القانونية والضمانات الدستورية.
غير أن عدداً من الباحثين في الفكر السياسي المعاصر يرون أن الديموقراطية لا تقتصر على مجموعة من الضمانات الدستورية، أي على حرّية سلبية، فغالباً ما يتمّ الخلط بين النظام الديموقراطي ودولة القانون. فإدخال النصوص القانونية وتبنّيها لا يكفي كي يصبح النظام ديموقراطياً، لأن بإمكان نظام استبدادي أن يمارس استبداديته بناءً على نصوص قانونية ووفق مقتضياتها، من دون أن يخرج عليها، لكنه يبقى نظاماً استبدادياً مع ذلك. من هنا يتّضح أن الديموقراطية صيرورة تاريخية وتراكم أفكار ومواقف وانفتاح، واستعداد لا متناهٍ للبذل والتضحية، وعمل جاد ومستمر لبناء الإنسان/المواطن، لكنها في الوقت نفسه ليست عصا سحرية، فتحقيق الديموقراطية لا يعتمد على إبداء الرغبة أو الإرادة من هذا الطرف أو ذاك فحسب، بل يعتمد على التصريف العملي المادي لهذه الرغبة أو الإرادة.
فتأمّل بسيط في مختلف تجارب الانتقال الديموقراطي التي شهدها العالم يدفعنا إلى خلاصة جوهرية مفادها أننا أمام ظاهرة يصعب تنميطها أو رسم آليات وقواعد عامة لها، فمن حيث المدة المفترضة التي يجب أن تستغرقها عملية الانتقال، لا نجد مدة زمنية ثابتة. ففي فرنسا مثلاً، تطلبت عملية الانتقال أكثر من قرنين، أي منذ الثورة الفرنسية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تمكّنت النساء من الحقّ في التصويت للمرّة الأولى، شأنها في ذلك شأن بلجيكا، بينما نجد أن التجربة الإسبانية التي بدأت في عام 1975 كانت أسرع.
إن تحقيق الديموقراطية ليس مسألة نهائية، بل هي مهدّدة في كل لحظة بالنكوص والتراجع. فالديموقراطية تستمر بمؤيديها وخصومها على حدّ سواء، ذلك أن مراحل التحوّل إلى الديموقراطية تظهر كأوضاع تاريخية يتنافس فيها مختلف الفاعلين حول طبيعة القواعد السياسية، ما يجعل منها مسلسلات مفتوحة على احتمالات ثلاثة: إما الانتكاسة والرجوع إلى الحالة التسلطية، ونكون بالتالي أمام تحوّل مجهض، أو الاستمرار في الإبقاء الصوري والهش على المؤسسات الديموقراطية، أو أخيراً فرض ترسيخ الديموقراطية التي تؤشر إلى الانتقال المنجز. فالديموقراطية تتحوّل من خلال عدم يقينية الانتقال إلى مسلسل لمأسسة عدم اليقينية، بحسب الباحث المغربي محمد أتركين.
يتجاوز عدم اليقينية الوضع المرتبط بالتباس المراحل الانتقالية، بل يتجاوزه إلى أبعد من ذلك، إلى ما يمكن أن تعرفه التجارب الديموقراطية شبه الكاملة من انحسار، نتيجةً لمسار طويل من التراجعات التي كانت موضوع كتابات وازنة، منها كتاب ستيفن ليفيتسكي ودانييل زيبالت "كيف تموت الديموقراطيات"، الذي أكّدا فيه أن التاريخ أثبت في معظم الحالات "أن الديموقراطيات تموت ببطء لا يكاد يلاحظه أحد"، إذ إنها "تفسد بسبب القادة الذين يسيئون استغلالها"، وأن أرض الديموقراطية الخصبة تخضع للتجريف لمدة طويلة.
إن الأحداث الجارية اليوم توضح حجم التفاؤل والتشاؤم، معززاً بآخر التقارير الدولية عن الديموقراطية في العالم، والتي تخلص إلى حقيقة تراجع قيمها، في مقابل بروز بعض مظاهرها مثل الانتخابات. فعلى الرغم من أن الانتخابات أصبحت هي القاعدة وليـست الاستثناء، فإن الكثير من الأنظمة غير ديموقراطية، كما أكّدت المؤسسة الدولية للديموقراطية والانتخابات في تقرير سابق لها حول الحالة العالمية للديموقراطية، تستعمل الانتخابات وسيلة لإضفاء الشرعية الداخلية والخارجية فحسب. أما في البلدان التي تحكمها أنظمة هجينة أو غير ديموقراطية، بحسب المؤسسة نفسها، فإن دور الانتخابات يقتصر على تعزيز الواجهة الديموقراطية.
يساهم هذا التشويه للمبادئ الانتخابية لأغراض غير ديموقراطية في تقويض ثقة الجمهـور بقيمة العملية الانتخابية في البلدان الديموقراطيـة، كما يخلص التقرير. فكيف هو الحال في الدول غير الديموقراطية؟
(النهار العربي)