رهانات خاسرة

لا يمكن التقليل من أهمية التظاهرات والاحتجاجات والمسيرات المطالبة بوقف الحرب على قطاع غزة التي تخرج في شوارع مدن العالم، خاصة في دول الغرب، فهي على الأقل تبقي اسم فلسطين حياً في الأذهان بشعارات "الحرية لفلسطين"، وبالتالي تجعل كثيراً من الناس لا ينسون أن هناك بلداً محتلاً وشعباً تحت الاحتلال، وذلك ما يزعج الإسرائيليين ومؤيديهم في الغرب، لأن ذلك عكس ما يريدون من "محو" كامل لما يوصف إعلامياً بـ"المسألة الفلسطينية"، بعدما تحولت من قضية صراع إلى شبه "مشكلة داخلية" في دولة الاحتلال.

لكن في الوقت نفسه من الصعب الرهان على أن تلك التظاهرات والاحتجاجات والمسيرات يمكن أن تغير كثيراً من مواقف الدول التي تخرج فيها، سواء تجاه الحرب على غزة أو تجاه اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة، صحيح أنه مؤخراً اتخذت الحكومة البريطانية الجديدة موقفاً مختلفاً قليلاً بتعليق بعض تراخيص تصدير السلاح إلى إسرائيل، وهو مطلب للمتظاهرين أسبوعياً ويومياً في بريطانيا منذ نحو عام.

لكن حكومة حزب العمال الجديدة تريد من ناحية أن تكون مختلفة عن حكومة المحافظين السابقة، خاصة أن الحزب شهد انشقاقات لنوابه من قبل، بسبب موقف زعيمه رئيس الوزراء الحالي الذي كان متطابقاً مع موقف المحافظين بشأن الحرب على غزة، والحزب الحاكم لا يريد الآن مزيداً من الخلافات الداخلية أو الانشقاقات.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تريد حكومة العمال أن تحذو حذو الأمريكيين للحفاظ على العلاقات القوية بين واشنطن ولندن، وبما أن الإدارة الأمريكية الحالية تبدي امتعاضاً (علنياً على الأقل) من سياسات الحكومة الإسرائيلية، زايدت حكومة العمال عليها بخطوة.

لا شك أيضاً في أن الغضب الشعبي، المعبر عنه بالتظاهرات والاحتجاجات، لعب دوراً في قرار الحكومة البريطانية ولو على طريقة "ها نحن نستمع إلى صوت الجماهير"، إنما الرهان على التأثير الكبير للتظاهرات في السياسات هو رهان خاسر، خاصة في بريطانيا التي تختلف عن بقية دول أوروبا في مسألة "الضغط الشعبي"، من هنا، فإن البعض الذين يتحمسون لاحتمال التغيير بسبب تلك الاحتجاجات إنما يقعون في فخ "التفكير بالتمني" ورهاناتهم خاسرة.

تظل الرهانات الأكثر شططاً هي تلك التي تهول من شأن التظاهرات في إسرائيل والخلافات بين الحكومة والمعارضة أو حتى داخل الحكومة ذاتها. أولاً، ربما يفكر هؤلاء المتفائلون بطريقة منطلقها أن إسرائيل "دولة ديموقراطية"، وبالتالي فإن السلطة يمكن أن تستجيب لاحتجاجات الجماهير المطالبة بالتوصل إلى صفقة مع الفلسطينيين في غزة.

وهذا مرة أخرى تفكير بالتمني، فمنذ عام 2018 وفي حكومة سابقة لرئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي، مرر قانون "يهودية الدولة"، أي أنها أصبحت قانوناً "دولة دينية"، ما ينفي عنها صفة الديموقراطية تلك، فالدولة الدينية عنصرية بالضرورة.

ثم إن الخلافات بين السياسيين من المشارب المختلفة لا تعني اتفاقاً بالأساس على موقف موحد يتعلق بالفلسطينيين وحقوقهم، البعض يريد أن يلغيها بالحرب و"الحل النهائي"، والبعض يرى ذلك ممكناً بالتفاوض إلى الأبد مع خلق واقع على الأرض يجعل حصيلة المفاوضات بلا معنى، حتى في علاقات إسرائيل بدول المنطقة، وبغيرها في العالم لا يمكن المراهنة على اختلاف مواقف الأحزاب والقوى السياسية.

توضح الأمثلة من التاريخ المعاصر جداً أن اليسار، من حزب العمل وغيره، غالباً يكون أكثر حديثاً عن المفاوضات والسلام والتطبيع وغير ذلك، لكن في النهاية من أبرم كل اتفاقيات السلام والتطبيع مع الدول العربية هو اليمين، ممثلاً في حزب "الليكود" أو غيره، وذلك منذ نهاية سبعينات القرن الماضي (اتفاقية كامب ديفيد مع مصر)، حتى أحدث الاتفاقيات قبل سنوات قليلة.

خلاصة القول إن انتظار تغير الأوضاع نتيجة ضغوط داخلية لدى الطرف الآخر، أياً كانت احتجاجات شعبية أو صراعات سياسية انتهازية، ليس سوى ضرب من الوهم، إنما المؤثر الحقيقي الذي يمكن أن يؤدي إلى تغيير هو ما تملك من أوراق الضغط وقوة التأثير لديك، أما الرهان على "الآخرين" فهو رهان خاسر بلا شك.

لا يعني ذلك بالضرورة أن وسائل الضغط من أجل التغيير باتجاه الحق والعدل تقتصر على المقاومة بالسلاح أو الحرب، إنما حتى في التفاوض ومسارات السياسة السلمية لا بد أن تتوافر لديك أوراق ضغط، وتلك لن يمنحك إياها أحد، لا قوى كبرى ولا إقليمية ولا غيرها، إنما هي قدرتك الذاتية على اتخاذ المواقف وتحمل كلفتها، وإيصال الرسائل الواضحة بأن الطرف الآخر سيتعرض إلى ضرر فعلي إذا لم يقدم تنازلات للوصول إلى حلول وسط.

فالسياسة والدبلوماسية لا تختلف كثيراً عن الحروب والصراعات المسلحة، فكلها وسائل للوصول إلى هدف، وإذا كانت مصلحتك الوطنية واضحة لديك، فإن حشد كل قوتك للوصول إلى هدفك أمر ضروري، نعم قد تساعد بعض العوامل الخارجية على ذلك، لكن الرهان عليها كورقة ضغط مهمة وأساسية ليس صحيحاً.

من هنا خطورة ما يروج له البعض من أن المسيرات والاحتجاجات وصراعات السياسة الانتهازية، يمكن أن "تحل الأمور من نفسها"، فذلك في النهاية عملية "تخدير" ستؤدي إلى الإفاقة على واقع جديد ليس في صالحك بالتأكيد.

(الخليج الإماراتية)

يتم التصفح الآن