وجهات نظر

من راشيل إلى عائشة

نقلت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية يوم السبت ١٤ سبتمبر/أيلول أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي أطلق النار على الناشطة الأمريكية التركية عائشة نور في بلدة بيتا بمحافظة نابلس شمال الضفة الغربية، وأوضح محافظ نابلس لاحقًا أنّ الطب الشرعي الفلسطيني أثبت أنّ عائشة قُتِلَت برصاص قناص إسرائيلي أطلق النار على رأسها.

من راشيل إلى عائشة

وكالعادة ادعى جيش الاحتلال أنّ الناشطة الأمريكية التركية قُتِلَت بطريق الخطأ وسط اشتباكات عنيفة، وهو ما فندته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية بعد تحليل أكثر من ٥٠ مقطع فيديو وصورة وإفادات ١٣ من شهود العيان.

التدليل الأمريكي والمراوغة والكذب الإسرائيليان هما القاعدتان الأساسيتان في محاسبة إسرائيل على جرائمها

وليس كذب الروايات الإسرائيلية الرسمية بخصوص الجرائم التي يرتكبها الجيش "الأكثر أخلاقية في العالم" بالأمر الجديد، ونذكر بطبيعة الحال مقتل الناشطة الأمريكية راشيل كوري في ١٦ مارس/آذار ٢٠٠٣ عضو حركة التضامن العالمية التي كانت قد سافرت لغزّة أثناء الانتفاضة الثانية، حيث قُتِلت بطريقة بشعة أثناء محاولتها إيقاف جرافة عسكرية تابعة للجيش الإسرائيلي كانت تقوم بهدم مساكن لفلسطينيين في مدينة رفح، فقد أكد شهود عيان أنّ سائق الجرافة تعمد دهس راشيل والمرور على جسدها بالجرافة مرتين أثناء محاولتها إيقافه في حين ادعى الجيش الإسرائيلي أنّ سائق الجرافة لم يستطع رؤية راشيل.

وهكذا تواصل آلة القتل الإسرائيلية مهمتها بامتياز لا تلوي على شيء طالما أنّ التدليل الأمريكي والمراوغة والكذب الإسرائيليين هما القاعدتان الأساسيتان في محاسبة إسرائيل على جرائمها، إن كانت هناك محاسبة أصلًا، وبالتالي فإنّ المحصلة تتجسد في إفلات إسرائيل دائمًا من العقاب.

ويرتبط الإفلات من العقاب ارتباطًا عضويًا بازدواجية المعايير الدولية، فعندما سقط ضحايا مدنيون بسبب الهجمات الروسية على أوكرانيا رغم أنّ أعدادهم لا تُذكر إذا قورنت بعشرات الآف من الشهداء الفلسطينيين في غزّة، سارعت كل الدوائر الغربية وعلى رأسها الأمريكية إلى إدانة روسيا ورئيسها وفرض العقوبات الشاملة عليها، وإصدار أمر من المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله، وتم هذا كله بسرعة فائقة بالمقارنة مع جميع القضايا التي نظرت فيها المحكمة، على العكس تمامًا من ردود الفعل الدولية تجاه الجرائم الإسرائيلية التي تستخدم أوصاف "القلق" و"الانزعاج" وربما "الانزعاج الشديد" مما جرى، ووصف الجرائم الإسرائيلية بأنها "غير مقبولة"، لكننا لا نسمع أبدًا أوصاف الشجب والإدانة، ناهيك بأي حديث ولو بالتلميح عن فرض العقوبات على إسرائيل.

ومن اللافت مثلًا في جريمتي قتل راشيل وعائشة أنّ تصريحات المسؤولين الأمريكيين، وصولًا إلى مستوى وزير الخارجية والرئيس، تحدثت عن الحزن والغضب دون أدنى حديث عن المحاسبة، فإذا سُئلوا عنها كان الجواب أنهم لا يستطيعون الحديث عن المحاسبة قبل أن يعرفوا كافة الحقائق التي تكون عادة واضحة وضوح الشمس كما في تلك الجريمتين، وكذلك في جريمة قتل الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وكانت كراشيل وعائشة تحمل الجنسية الأمريكية، فإذا ما أكد شهود العيان تعمد سائق الجرافة سحق راشيل تحت جرافته، أو استحالة تفسير قتل شيرين دون أن تكون قد استُهدفت بقناص إسرائيلي، أو أنّ عائشة قد استُهدفت برصاصة قناص إسرائيلي في رأسها خرست ألسنة أولئك المسؤولين، ولقد فعل والد راشيل ووالدتها المستحيل لكي تكون هناك محاسبة عادلة دون جدوى، وكذلك فعلت السلطة الفلسطينية في حالة شيرين، وبدأت تركيا الآن جهودًا في هذا الاتجاه.

خبرة التاريخ تؤكد أنّ حركات التحرر لا تُهزم حتى وإن خسرت معركة في الطريق الشاقة الطويلة للنضال

وإذا كان هذا يحدث مع من كانوا يحملون الجنسية فلا عجب إذًا أن يُقتل عشرات الألوف من الفلسطينيين دون أن تهتز شعرة في رأس مسؤول أمريكي، ولا شك أنّ إفلات إسرائيل من العقاب تعززه العدالة الدولية الكسيحة التي لا تجعل محكمة العدل الدولية قادرة على إصدار حكم بأنّ إسرائيل ترتكب جريمة الإبادة الجماعية، أو حتى تصدر قرارًا بإلزام إسرائيل بوقف شامل لإطلاق النار بعد عام كامل تقريبًا من المذابح الإسرائيلية، ولا تجعل المحكمة الجنائية الدولية قادرة على إصدار الأمر بالقبض على نتنياهو رغم مرور شهور على طلب مدعيها العام ذلك، ورغم ما يشبه الإجماع على مسؤوليته عن المذابح واستمرارها.

وقد يظن المتغافلون عن قيم الحق والعدل أنّ سلوكهم سوف يفضي إلى وأد حركة التحرر الفلسطينية، غير أنّ خبرة التاريخ تؤكد أنّ حركات التحرر لا تُهزم، حتى وإن خسرت معركة في الطريق الشاقة الطويلة للنضال من أجل حقوقها، وإنما هي تنهض دائمًا من تحت الركام وقد أصبحت أكثر خبرة وقوة، وتواصل نضالها نحو النصر رغم عظم التضحيات.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن