حمل المثقفون العرب لواء الحركة القومية لعقود طويلة منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى الآن، وتوزعت أدوارهم تحت مسميات مختلفة بدءاً بالقوميين العرب والوحدويين الاشتراكيين وكوادر البعث العربي الاشتراكي والحركة الناصرية التي اكتسحت الجميع في فترة معينة، إلى أن انتصر المشروع الإسلامي مؤقتاً على المشروع القومي بعد هزيمة عام 1967، وذلك كله إلى جانب عشرات التجمعات القومية والأحزاب السياسية التي سعت في مجملها إلى توحيد الكلمة والسعي نحو الوحدة العربية بمراحلها المختلفة، والملاحظ أنها تمحورت في معظمها حول القضية الفلسطينية. ولا شك أن قيام دولة إسرائيل قد دفع الحركة القومية خطوات إلى الأمام وجعلها ذات زخم ومسؤولية، ولنا أن نسجل هنا الملاحظات التالية:
أولاً: إن المشرق العربي كان سباقاً تجاه الحركة القومية، فلقد كان المغرب العربي مشغولاً بحركات الاستقلال الوطني وبعيداً نسبياً عن بؤرة الصراع العربي الإسرائيلي، ولكنه ومع ذلك كان شريكاً فاعلاً في تجسيد الأماني القومية والتطلعات الوطنية، بل وأذهب بعيداً لكي أقول إن العرب في منطقة الشام كانوا هم رواد الحركة القومية سواء في وطنهم الأم أو في بلاد المهجر، ولا شك أن كتاباً مثل (النبي) لجبران خليل جبران، كان انفتاحاً فلسفياً للشهية العربية، لكي تفكر وتتأمل وتمضي على طريق جديد، وقد تلقف الأشقاء في المغرب العربي ودوله المختلفة تلك التطلعات القومية المشرقية الثائرة وتجاوبوا معها، بل وانعكست لديهم أفكار الحرية ومبادئ الثورة الفرنسية التي درسوها في مراكزهم العلمية ومعاهدهم الدراسية، لكي تكون هي الأخرى نبراساً وطاقة ضوء يهتدي بها الجميع.
ثانياً: إن دور المثقفين العرب لم يقتصر فقط على الجانب السياسي، ولكنه تجاوز ذلك إلى الولوج نحو قضية الوجود العربي برمتها، وبدت مظاهر متعددة لذلك، فأصبح مطلوباً ممن يحكمون وحدهم الاستماع إلى الكلمة العليا لجماهيرهم في الشوارع الكبرى بالعواصم الأوروبية والعربية المختلفة، ولا شك أن جهاد المصريين الوطني للفكاك من سطوة الحكم العثماني، قد التقى كشعار قومي مع أطراف أخرى للخلاص من مظاهر التخلف، لذلك فإن كل الحركات النهضوية في العالم العربي وجدت أرضية مشتركة تجمع بين القواسم المتعددة فيها، فارتبطت حركة التعليم والتنوير بالتيارات الوطنية في الدول العربية المختلفة، وأصبح التوصيف الأول كما لخّصه شعار البعث «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، وقد أسهم دور جمال عبدالناصر بمصر في تكريس المنطلق القومي على نحو غير مسبوق، وقامت دولة الوحدة في فبراير/شباط عام 1958 إلى أن سقطت بمؤامرة الانفصال في 28 سبتمبر عام 1961، وكانت الأجيال العربية الجديدة قد تفاعلت مع نداءات المثقفين ورواد الاستنارة والتحرر، لكي يصبح الأمر برمته تياراً كاسحاً أدى إلى صحوة قومية تمكّنت من اجتياح التيارات الراكدة والأفكار الجامدة، لكي تجمع أطراف الأمة العربية خلف مثقفيها على نحو غير مسبوق.
ثالثاً: إن العروبة ليست رداءً نرتديه حين نريد ونخلعه متى نشاء، ولكنها قدر ومصير وحياة، بحيث تفجّرت أحلام العرب بديلاً لأوهام الماضي وقرون القهر الاستعماري، حتى أصبحنا أمام بوابة المستقبل، عندما انتشر التعليم العصري، وبرزت سمات الدولة الحديثة، وأخذت بعض الدول العربية بمظاهر التمدين الاجتماعي، مثلما حدث في (تونس بورقيبة)، أو التشدد في الاستقلال الوطني، مثلما حدث في (مصر عبدالناصر)، أو الأخذ بمبادرات ديمقراطية سباقة، مثلما حدث في (لبنان العربي) أو (إمارة الكويت) بعد إعلان دولتها في مطلع ستينات القرن الماضي. ولا شك أن الحركة الوحدوية في الجزيرة العربية التي قادها الملك عبدالعزيز الكبير كانت توجهاً إيجابياً نحو ميلاد أمة عربية جديدة وواعية، فنشأت جامعة الدول العربية عام 1945، وتمكن الهاشميون من حكم سوريا والعراق لبضع سنوات، ثم أسسوا المملكة الأردنية الهاشمية التي تمثل رمزاً هاشمياً صامداً أمام كل الظروف، وخاض العرب جميعاً حروب عام 1948 و1956 و1967 و1973 في سلسلة نضال متصلة، ما زالت أصداؤها ماثلة في المشهد العربي حتى اليوم.
إنّ دور المثقفين العرب أكبر من أن يختزل، وأعظم من أن ينسى، وأقوى من أن يضيع.
("الخليج") الإماراتية