بصمات

عالم ما بعد حرب غزّة

تحل قريبًا الذكرى الأولى لحرب غزّة التي غيّرت جذريًا الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، وأثرت بقوة على التوازنات الاستراتيجية العالمية. بهذه المناسبة، أصدر الباحث الفرنسي في الشؤون العربية جيل كيبل كتابًا بعنوان "اضطراب العالم. ما بعد 7 أكتوبر" تناول فيه الأحداث الجارية حاليًا في الأراضي المحتلة والعدوان الإسرائيلي المستمر على غزّة.

عالم ما بعد حرب غزّة

يرى كيبل أنّ أحداث 7 أكتوبر غيّرت نوعيًا إطار فهمنا للمعطيات الجيوسياسية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية من حيث كونها قامت على فظائع الإبادة النازية وما أدت اليه من تفاهم مفض إلى إنشاء "وطن قومي لليهود" في فلسطين.

لم تغيّر الحرب الباردة من هذه المعطيات، وظلت محورية الجرائم النازية الإطار الناظم للعلاقات الدولية. بل إنّ الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي تنافسا عمليًا على استغلال وتوظيف الذاكرة النازية. ولم تتغيّر هذه الصورة بعد نهاية الحرب الباردة، إلا أنّ المعادلة تبدلت كليًا بعد حرب غزّة التي ذهب ضحيتها - حسب المؤلف - 40 ألف قتيل، بما أدى إلى أنّ الثقل الأخلاقي لمفهوم الإبادة لم يعد في صالح إسرائيل بل مناهضًا لها.

لم يعد يُنظر لدول الغرب كقوى مؤهلة للدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان

لقد نجحت كتلة الجنوب الشامل في استبدال الإبادة النازية من حيث هي نموذج الرعب الأقصى بالإبادة الحالية للشعب الفلسطيني بصفتها الحد الأقصى من الحالة الاستعمارية. وهكذا انتقل العالم من الاستقطاب الأفقي الشرقي - الغربي إلى الاستقطاب العمودي الشمالي - الجنوبي، وغدا الاستعمار الشمالي الشر الأقصى بضحاياه في الجنوب.

النتيجة التي يخلص إليها الكاتب هي أنّ المجتمعات الغربية، ينظر إليها اليوم على نطاق واسع بصفتها دولًا استعمارية مدانة أخلاقيًا. أخطر حصيلة لهذا التحوّل حسب المؤلف هي أنّ دول الغرب فقدت الريادة الأخلاقية والقانونية الكونية، ولم يعد يُنظر لها كقوى مؤهلة للدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان.

ومع أنّ جيل كيبل قريب من التيار اليميني الراديكالي ويعتمد أطروحة "الصدام الحضاري" في العلاقات الدولية الجديدة، إلا أنه على وعي بكامل بأنّ حرب غزّة خلقت وضعًا جديدًا لا يمكن التعامل معه بالقوة والصلف ورفض حقوق الشعب الفلسطيني العادلة.

يمكن أن نضيف إلى تشخيص كيبل ملاحظات ثلاث أساسية، تفسر بعض جوانب أطروحته التي لخصناها آنفًا:  

الملاحظة الأولى: نقلت حرب غزّة الموضوع الفلسطيني من أبعاده الوطنية والقومية إلى مستوى القضية الكونية التي تستوقف الضمير الإنساني، كما ظهر في موجة التضامن العالمي الواسع مع الشعب الفلسطيني في مختلف أنحاء المعمورة، من أفريقيا إلى الجامعات الأمريكية والأوروبية. ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة تثبت المؤشرات المنشورة أنّ التعاطف مع محنة الشعب الفلسطيني أصبح اتجاهًا ملموسًا ومتناميًا في مختلف دوائر وحلقات المجتمع المدني والحقل السياسي، بما سيكون له تأثير حقيقي في مركز القرار مستقبلًا.

ازدواجية المعايير" هي في آن واحد خلل أخلاقي وقانوني يهدد منظومة الشرعية الدولية بكاملها

الملاحظة الثانية: بدأت إرهاصات واضحة على تآكل الفكرة الصهيونية التقليدية التي قامت على مشروع بناء وعي قومي للشعوب اليهودية وتجسيده الفعلي عبر دولة قوية حاضنة للشتات من مختلف الأصقاع. لقد انقشع إلى حد بعيد هذا الوهم، وأصبح جانب واسع من المجتمعات اليهودبة واعيًا بأنّ الدولة العبرية ليست حلًا للمشكل اليهودي ولا قادرة على تأمين وحماية الوجود اليهودي، فضلًا عن كونها فقدت ما كانت تدعيه من تميّز أخلاقي وتفرّد ديمقراطي.

الملاحظة الثالثة: القوى الغربية المسيطرة على النظام الدولي وجدت نفسها في مأزق قيمي واستراتيجي حاد حكم عليها بالجمود والشلل في مواجهة أخطر انتهاك لمعايير الشرعية القانونية والإنسانية، في الوقت الذي ترفع منطق السيادة والعدالة في إدارة الحرب الأوكرانية الروسية في قلب أوروبا. ذلك ما شكل ما دعاه كيبل بالقسمة العمودية الجديدة للعالم من حيث هي انتفاضة عارمة ضد ما أطلق عليه كثيرون مقولة "ازدواجية المعايير" التي هي في آن واحد خلل أخلاقي وقانوني يهدد منظومة الشرعية الدولية بكاملها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن