كل التطورات المتسارعة تشير إلى أن اسرائيل تنفّذ مخططاً جرى إعداده منذ فترة، ويجري السير فيه خطوة تلو أخرى، ربما حتى لا ينهار التفاهم الأميركي - الإيراني، أو ترتبك الأجندة الأميركية للمنطقة. وبعد حرب التصريحات، بدأت المسألة تتجاوز المناوشات أو الاشتباكات، ودخلت نطاق الحرب وأصبح لدى الداخل الإسرائيلي أجواء لتقبّل هذه الحرب، ربما لأن الاعتقاد هناك ساد بأن الثمن المدفوع جراء عدم خوض الحرب ضدّ "حزب الله" يفوق ثمن الدخول فيها، طالما أن تهجير سكان الشمال حاصل ومستمر بل يزداد كلما وسّع الحزب نطاق صواريخه.
على كل من يستبعد التدخّل البري للجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان أن يُعيد حساباته. ففي العقيدة الإسرائيلية، يجب أن تنهي الحرب باحتلال الأرض، ثم يتمّ التفاوض عليها لتحصل إسرائيل على مكاسب تفوق ما كان لديها قبل الحرب. حدث ذلك منذ حرب 1948 وتكرّر في كل الحروب التي خاضتها إسرائيل، وحتى في حرب 1973. بعد نجاح الجيش المصري في إسقاط خط بارليف وعبور قناة السويس والوصول إلى منطقة الممرات في سيناء، تركزت ردّة الفعل الإسرائيلي على إحداث ثغرة الدفرسوار ليستغلها في محادثات فضّ الاشتباك بعدها.
والاعتراضات في الداخل الإسرائيلي على استمرار الحرب على غزة لم تستند إلى أسباب أخلاقية أو إنسانية أو حتى سياسية، إنما لوجود رهائن يُخشى على سلامتهم وعودتهم، وتلك الحالة غير موجودة في حرب إسرائيل على لبنان التي تعتقد أغلبية الإسرائيليين أنها السبيل الوحيد لإعادة سكان الشمال والنازحين إلى بيوتهم.
ويأتي السؤال: أين ردّات الفعل الشعبية في الدول العربية، ولماذا اختفت؟ ولماذا لم يخرج الناس إلى الشوارع ليحتجوا ويطلبوا من الحكام دعم "حزب الله" واتخاذ المواقف لحماية قادته؟ والحقيقة أن "حزب الله" الآن ليس كما كان في عام 2006، إذ فقد كثيراً من التأييد والزخم الشعبي لأسباب معروفة تتعلق بارتباطه بإيران، وافتضاح تبعيته وسلوكه وتحالفاته مع التنظيمات المضادة للدول العربية كـ"الإخوان"، ناهيك بالطبع عن المذابح التي ارتكبها في سوريا وتوريطه لبنان في حرب لا يتحمّل تبعاتها ونتائجها، إضافة إلى القناعات التي ترسّخت لدى الشعوب العربية بأنه لا يمكن إسقاط ما حدث من عقود على ما يحدث اليوم، لا 2006 ولا 1982 عند خروج ياسر عرفات من لبنان.
فالظروف تغيّرت، وصار الناس أكثر دراية بكون الحزب أداة إيرانية، وعلى علاقة راسخة بكل التنظيمات المتأسلمة في الدول العربية التي نشطت في أثناء "الربيع العربي"، وارتكبت جرائم في دولها، وساهمت في تفتيت المجتمعات، وما زالت دول عربية عدة تدفع ثمن الفوضى والإرهاب والفتن التي تفشت فيها بفعل أهوال ارتُكبت ضدّ شعوبها ومؤسساتها، وأيّدها "حزب الله".
المواطن العربي، بعد الأذى الذي تعرّض له بفعل التنظيمات والأحزاب والجماعات والميليشيات المتاجرة بالدين، حائرٌ الآن بين غضبه من جرائم إسرائيل في غزة ولبنان، وبين تعاطفه مع الفلسطينيين واللبنانيين، ويعتقد أن سيناريو غزة يُقلق اللبنانيين، خصوصاً أن كل التوقعات، استناداً إلى المعطيات على الأرض، تشير إلى أن هناك اتجاهاً للتصعيد وليس إلى تهدئة، على خلفية الهدف الذي وضعه نتنياهو بإعادة السكان إلى الشمال في مقابل التحدّي الذي طرحه "حزب الله" بمنعهم من العودة إلى بيوتهم، حتى بدا السؤال المطروح: من يستطيع تحمّل النزوح والتهجير فترة أطول؟
وبعد اغتيال حسن نصر الله، فتحت شهية إسرائيل لتحقيق مكاسب أخرى، وإضافة أرصدة أخرى إلى بنك أهدافها. والآن، إسرائيل تهجّر اللبنانيين كما هجّر "حزب الله" الإسرائيليين، أما إيران فلا مؤشرات مؤكّدة على أنها تفكر بالردّ بقدر تفكيرها بالردّ المضاد. فطهران لا تزال تحسب ألف حساب، ولا تريد أن تدخل في إطار حرب ومواجهة مباشرة مع إسرائيل، التي بعثت برسالة مفادها أنها تستطيع أن تصل لمن تريد، إضافة إلى أن الردّ على هجوم إيراني سيكون إسرائيلياً أميركياً ضدّ المنشآت النووية الإيرانية مباشرة.
وعندما أوعز النظام الإيراني إلى "حزب الله" بفتح جبهة الإسناد، كان يريد أن يحجز له مقعداً على طاولة المفاوضات مع الغرب. وكان هدفه أن تكون حرب مناوشات ومشاغلة ومحددة بأسابيع، لكن إسرائيل اعتمدت استراتيجية مختلفة، و"حزب الله" الآن صار مستنزفاً وخسر الكثير من قوته وقدراته، بعدما فَقَد قادته، وهو اليوم يصارع ولم تعد حربه حرب مساندة بل حرب وجود وبقاء.
لا مجال للاعتماد على حسابات خاطئة تتعلق بالموقف الدولي. فلو كان للمجتمع الدولي تأثير على إسرائيل ووقف توحّشها، لتمكن من إنقاذ الفلسطينيين وكبح جماح جيشها ومنع، أو حتى تخفيف، الفتك بالفلسطينيين في قطاع غزة، وبالتالي ترك لبنان وحده يواجه الدمار والانتقام والجرائم الإسرائيلية، خصوصاً أن الكل يشاهد ويتابع ويستغرب تخلّي إيران عن حماية "حزب الله" أو دعمه.
ربما سعى الطرف الإسرائيلي، عبر وسطاء غربيين، لإثناء "حزب الله" عن موضوع جبهة المساندة لغزة لكنه فشل، فلجأ إلى الاغتيالات واستمر بعدها حتى وصل إلى رأس الحزب، واستمر في دفع اللبنانيين إلى النزوح والتهجير عبر الضربات والضغط على الدولة اللبنانية. انعكس الارتباك في عملية اغتيال نصر الله، صاحب الدور المحوري، إذ رغم المخاطر الأمنية والتفوق الاستخباراتي الإسرائيلي، بدا أن نصر الله أصرّ على حضور الاجتماع مع كبار مساعديه وقادة الحزب في مكان بالقرب من موقع جرى اغتيال رموز من الحزب فيه قبل أيام، بينما الخرق الأمني بدأ منذ زمن، وبدأ تنفيذه بعملية "البيجر" التي توالت بعدها عمليات الاغتيال والإنهاك والقصف المستمر، لأن إسرائيل قرّرت أن تجعل الحزب عاجزاً عن الردّ أو النهوض.
المواطن العربي مذهول من ذلك الاختراق الكبير في بيئة "حزب الله"، أظهره تتبع قادة الحزب واغتيالهم بعد تفجيرات "البيجر"، ولم يستوعب بعد كيف خطط الإسرائيليون لاغتيال قادة في الحزب ورصدوا وحصلوا على معلومات دقيقة، رغم الاحتياطات والإجراءات الأمنية السرّية التي كنا نعتقد أنها صارمة، ونفّذوا العمليات، وأعلنوا عنها بمجرد انتهائها، ليس لإحباط الحزب وداعميه أو إبهار المتابعين والحلفاء فحسب، وإنما أيضاً لفضح التواطؤ وإثبات الخيانة والسخرية من الكتمان والسرّية التي تحوط بتحركات الأمين العام للحزب، الذي كان يتحدث إلى الناس عبر الشاشات، ناهيك عن رموزه وقادته.
ظلّ المواطن العربي متوجساً من السلوك الإيراني والسياسات الإيرانية، فوجد طهران قد تنصّلت من "حماس" ومن "حزب الله" وتخلّت عنهما، واكتشف أن القيمة الإضافية للحملة الإسرائيلية على لبنان، والتي حققها نتنياهو، هي تهميش موضوع غزة وتغييب أخبار القطاع عن وسائل الإعلام، حتى صار خبرٌ عن مذبحة للجيش الإسرائيلي على فلسطينيين في غزة يأتي في نهاية نشرات الأخبار، مثل فقرة حالة الطقس ودرجات الحرارة! والمتابع يلاحظ أن العدوان على لبنان لم يخفف من وطأة التوحش الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة، لكن البث المباشر للقصف الصاروخي والهجمات على خان يونس ورفح وشارع الرشيد أصبح من بيروت والضاحية وبرج البراجنة.
(النهار العربي)