لو توقفنا عند التجربة المغربية على سبيل المثال، كان لقصور منظومة التكوين والتعليم عن إدراك الأهداف المتعلّقة بتلبية الحاجيات الحقيقة للاقتصاد، وعجزها عن إدماج الشباب في النسيج الاقتصادي، إسقاطات سلبية على الاستقرار الاجتماعي في المغرب.
شهِدت تلك الفترة تعدّد الاضطرابات الاجتماعية التي غذتها بطالة الشباب المُتفشية في كبريات الحواضر المغربية، وكذلك في القرى والبوادي التي تأثرت بشكل كبير بتعاقب سنوات الجفاف التي جعلت من البطالة في هذه المناطق معطى بنيويًا، كرّس البؤس واليأس لدى شرائح واسعة من الشباب، الذين انتفضوا على هذه الأوضاع خلال سنوات 1981 بالدار البيضاء و1984 بمراكش وبأقصى الشمال وبفاس سنة 1990، وهو ما خلّف آلاف الضحايا 447 وعشرات الآلاف من المعتقلين، وجروحًا نفسية واجتماعية لم تندمل إلى حدود الساعة، كما ساهم في تعطيلٍ كبير للمشاريع التنموية وإجبار المغرب على الخضوع لإملاءات المؤسسات المالية الدولية، والدخول في مرحلة إصلاح قاسية عُرفت بـ"التقويم الهيكيلي"، ناهيك عن تسريعه لوتيرة تطور مجموعة من الظواهر الاجتماعية غير المعهودة، كالهجرة غير النظامية وعدد من الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة التي كان لها أثرٌ سلبيٌ على أداء الاقتصاد المغربي، وأثر آخر إيجابي على الاستقرار الاجتماعي أسهم في تخفيف الاحتقان دون أن يُطفئ لهيب الغضب.
الأنموذج المغربي والسياق العربي.. أوجه الاختلاف والتلاقي
وفي هذا الصدد، جدير بالذكر أنّ الوضع المغربي لم يكن بالضرورة انعكاسًا لما كان يجري في بقية الدول العربية، خاصّة بلدان الخليج، التي لم تساير التوجهات المغربية خلال هذه الفترة، بالنظر إلى خصوصيتها الاقتصادية والديموغرافية آنذاك، التي لم تكن تسمح بتعويض العمالة الأجنبية بأيدي عاملة محلية، وهو ما جعلها تستمر في الاعتماد على العمالة الأجنبية بمختلف أنواعها، قبل أن تدفع التحولات الاقتصادية، والتطور الذي حدث خلال العقدين السابقين، عددًا منها، بخاصّة المملكة العربية السعودية، إلى نهج توجهات مشابهة لما أقدم عليه المغرب خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث تبنّت المملكة العربية السعودية توجه "سعودة" الموارد البشرية كحل لمواجهة شبح البطالة بين المواطنين وتخفيف الاحتقان الاجتماعي، وأداة للانفتاح على قطاعات اقتصادية جديدة وفق استراتيجية تروم تنويع الاقتصاد والتخلص من الارتهان للمحروقات، وذلك وِفق مقاربات سعودية - سعودية، بسواعد وعقول سعودية أيضًا.
ضُعف ارتباط الأنظمة التعليمية بالاقتصاد واختلاف التوجهات الاقتصادية لم يُسهم في تطوّر العمل العربي المشترك
وعلى الرغم من الجهود المبذولة على مستوى تكوين وتأهيل الموارد البشرية في معظم الدول العربية خلال العقود الأربعة الماضية، إلّا أنّ ضُعف ارتباط الأنظمة التعليمية بالاقتصاد، واختلاف التوجهات الاقتصادية وِفق الخلفية الأيديولوجية والسياسية لكل بلد عربي، لم يُسهم في تطوّر العمل العربي المشترك على هذا المستوى، وذلك رغم البدايات المشجعة التي عرفها مجال التعاون المشترك المتعلق بالموارد البشرية على مستوى توجيه فائض العمالة العربية للدول التي كانت بحاجة إليها، والتي لم تفُضي بالنظر إلى طابعها العرضي إلى بناء أرضية مؤسّساتية عربية قوية لتطوير التعاون في مجال تكوين الموارد البشرية والتشغيل، وهو أمرٌ فاقمه ضُعف وترهل منظومة التعاون العربي عمومًا، وتأثرها بالخلافات السياسية العربية البينية التي لم تساعد على بناء سوق عربية مشتركة ولا فتح للحدود أمام التبادل الحُر للبضائع والكفاءات ورؤوس الأموال.
لقد شجع هذا الوضع على الاستمرار في توجيه فائض العمالة العربية بوتيرة عالية من خلال القنوات غير الرسمية إلى الدول العربية التي تشهد نقصًا فيها كليبيا وبلدان الخليج والعراق خلال فترات متعدّدة قبل اندلاع حروب الخليج الكبرى، وكذلك توجيهها ابتداءً من تسعينيات القرن الماضي بطريقة غير نظامية أحيانًا نحو أوروبا وأمريكا سعيًا لتنفيس الاحتقان الاجتماعي والاستفادة من تحويلات العملة الصعبة، وهو ما ساهم في تشكل بِنية هجرةٍ عربية ذات قواسم مشتركة، سرعان ما سوف تتغير محدّداتها في ظل التطورات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية التي سوف يشهدها العالم خلال العقدين الماضيين.
الثابت والمتحوّل في بنية هجرة العمالة العربية
لقد شكّلت العمالة الغير مؤهلة خلال العقود الأربعة الماضية معظم بنية الهجرة العربية نحو الخارج ونحو الدول العربية أيضًا، حيث كانت توَجَّه للاشتغال في قطاعات لا تتطلب تكوينًا تقنيًا عاليًا كالبناء والخدمات والزراعة وغيرها.
لم يعد باعث الهجرة يتمحور أساسًا حول "لقمة العيش" بقدر ما أصبح ينحو باتجاه البحث عن أنموذج عيش أفضل
غير أنّه مع التحوّلات الاقتصادية التي شهدها العالم، وما صاحبها من تطور تكنولوجي وديموغرافي جعلت من الهجرة عملية شديدة الانتقاء، تولي الأهمية أكثر فأكثر لتخصّصات مُعينة كالطب والهندسة المعلوماتية وغيرها، وهو ما انعكس على بنية الهجرة العربية التي أضحت رويدًا رويدًا تتشكل من فئات عالية التأهيل، لم يعد باعث الهجرة لديها يتمحور أساسًا حول البحث عن "لقمة العيش" بقدر ما أصبح ينحو باتجاه البحث عن أنموذج عيش أفضل لهم ولأبنائهم، يضمن لهم ولوجًا عادلًا ومنصفًا لمختلف الخدمات العمومية وتوزيعًا عادلًا للثروة وممارسة حرة لحقوقهم الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية، كما لم يعد لديهم رغبةٌ في العودة للاستقرار والاستثمار في بلدانهم الأصلية، كما كان يحدث ذلك مع الأجيال الأولى للمهاجرين العرب من غير الفلسطينيين واللبنانيين وفي مرحلة لاحقة السوريين والعراقيين ممن فُرض عليهم بسبب الحروب الخارجية والحروب الأهلية والاحتلال، الاستقرار القسري في بلدان الاستقبال.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")