فكرة الإبادة متجذرة في الفكر السياسي الصهيوني، إذ أكد المفكر الصهيوني البريطاني إسرائيل زانجويل، في كتاباته الأولى (1917) على ضرورة طرد العرب وترحيلهم، فيقول: "يجب ألا يُسمح للعرب أن يحولوا دون تحقيق المشروع الصهيوني؛ لذا لا بد من إقناعهم بالهجرة الجماعية وإما طردهم بحد السيف".
وكانت فكرة نفي الوجود الفلسطيني بتشتيته قد عبَّر عنها مناحيم أوسيشكين أحد قادة الاستيطان عام 1930 بقوله: "من المحتم بالدرجة الأولى، أن تكون جميع أراضي فلسطين أو معظمها ملكًا لشعب إسرائيل.. وبدون حق ملكية الأراضي لا تكون فلسطين يهودية أبدًا".
في الملصق الشهير لعصابة أرجون "الحل الوحيد" هو إقامة إسرائيل بالقوة على ضفتَي نهر الأردن
أما الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي (1940) فأكد على وجوب ترحيل العرب بالقوة، لأن ترحيلهم شرط أساسي لقيام الدولة؛ فقال في رسالة بعث بها إلى السناتور الأمريكي جراسنبيرغ عام 1930 إنّ "تأسيس أكثرية يهودية في فلسطين يجب أن يتم عنوة عن إرادة الأكثرية العربية الموجودة في البلاد.. وسيرعى عملية إنجاز هذه الأكثرية جدار حديدي من القوة اليهودية المسلحة لتحرير فلسطين بحد السيف".
ونادى جابوتنسكي بأمرين جوهريين ضروريين وهما تعلّم اللغة العبرية والتحدث بها، والضرب بقوة وبقسوة وقطع رقاب الفلسطينيين.
واعتبر يوسف فايتس (1972) المدير الأسبق لدائرة الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي أنّ الإنسان العربي الفلسطيني حجر عثرة أمام تحقيق المشروع الصهيوني، وأنّ عمليات وصفقات شراء الأراضي قد اصطدمت عشرات المرات بمعارضة الفلسطينيين الذين تم ترحيلهم عن بيوتهم.
وقال فايتس في البند المؤرخ بيوم 20 ديسمبر/كانون الأول عام 1940 من يومياته: "لا بد أن يكون واضحًا لنا عدم وجود متسع لشعبين يعيشان معًا في هذه البلاد، وليس ثمة من وسيلة سوى نقل العرب من هنا إلى البلدان المجاورة.. نقلهم جميعًا، ويجب ألا تبقى قرية واحدة أو قبيلة واحدة".
وفي الملصق الشهير لعصابة أرجون ومكتوب عليه بالعبرية "الحل الوحيد" يُقصد بالحل الوحيد كما توضحه الخريطة والبندقية المرسومة فوقها هو إقامة إسرائيل بالقوة على ضفتَي نهر الأردن – أي فلسطين وشرق الأردن - ويرجع تاريخ هذا الملصق إلى سنة 1946.
وكان الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون قد أدرك مع نهاية سنة 1946 أنّ البريطانيين كانوا في طريقهم إلى المغادرة، وأخذ يعمل مع مساعديه على وضع استراتيجيه عامة يمكن تطبيقها ضد السكان الفلسطينيين في اللحظة التي يغادر البريطانيون البلد، وتمثلت هذه الاستراتيجية في الخطة (ج).
كانت الخطة (ج) نسخة مطورة من خطتين سابقتين، (أ) و (ب)، وكانت الخطة (أ) تسمى أيضاً خطة "إليميلخ"، على اسم إليميلخ أفنير، قائد الهاجاناه في تل أبيب الذي وضع في سنة 1937 بناء على طلب من بن غوريون، خطوطًا موجهة للاستيلاء على فلسطين في حال انسحاب بريطاني منها، أما الخطة (ب) فقد وضعت في سنة 1946، وجرى دمج الاثنتين معًا لتشكلا الخطة (ج).
طمحت الخطة (ج)، مثل الخطتين (أ) و (ب)، إلى إعداد القوات المسلحة التابعة للمجتمع اليهودي من أجل القيام بحملات هجومية على مدن فلسطين وقراها فور خروج البريطانيين من البلد، وكان الغرض من تلك الحملات ردع السكان الفلسطينيين عن مهاجمة المستعمرات اليهودية، والرد الثأري على مهاجمة منازل يهودية أو طرقات أو حركة سير.
وقد حددت الخطة (ج) بوضوح ما تتضمنه الأعمال التأديبية من هذا النوع، كالتالي: قتل القيادة السياسية الفلسطينية، قتل المحرضين الفلسطينيين والذين يقدمون لهم دعمًا ماليًا، قتل الفلسطينيين الذين نشطوا ضد اليهود، قتل الضباط والموظفين الفلسطينيين الكبار في النظام الانتدابي، إلحاق الضرر بحركة النقل الفلسطينية، إلحاق الضرر بمصادر عيش الفلسطينيين مثل أبار المياه، الطواحين.. إلخ، مهاجمة القرى الفلسطينية المجاورة التي من الممكن أن تساعد عناصر معادية في هجمات مستقبلية. ومهاجمة النوادي والمقاهي وأماكن التجمع الفلسطينية، وما شابه ذلك.
حسمت الخطة "داليت" مصير الفلسطينيين القاطنين داخل الأراضي التي أراد القادة الصهيونيين الاستيلاء عليها
لكن خلال بضعة أشهر، تم وضع خطة أخرى وهي الخطة (د) والتي عرفت بـ"داليت"، وذلك في 10 مارس/آذار 1948. وكانت تلك الخطة ضمن الإطار الذي وُضع كسلسلة من الهجمات الصهيونية على مناطق مختلفة، استتبعت هذه الهجمات تدمير جسم الشعب الفلسطيني، وكان هدفها السيطرة العسكرية على المنطقة التي كان من المفترض أن تقوم عليها "الدولة الإسرائيلية".
وحسمت الخطة "داليت" مصير الفلسطينيين القاطنين داخل الأراضي التي أراد القادة الصهيونيين الاستيلاء عليها لإقامة الدولة اليهودية العتيدة، ومن عملياتها: حملة نحشون التي تواصلت من 5 إلى 15 أبريل/نيسان 1948، وحملة هرئيل من 15 إلى 20 من الشهر ذاته، وكانت هاتان الحملتان تهدفان إلى احتلال وتدمير القرى الفلسطينية على امتداد الطريق الواصل بين يافا والقدس، وفي نهاية الشهر تم تنفيذ حملة حامتس لعزل واحتلال يافا والقرى المحيطة، ثم حملة يبوسي التي استهدفت احتلال الأحياء السكنية الفلسطينية في القدس الغربية والشرقية خارج حدود البلدة القديمة بالإضافة إلى القرى الواقعة في القرى الشمالية والشرقية، ثم حملة يفتاح لاحتلال الجليل الشرقي بالكامل. وحملة مكابي التي جرى تنفيذها في مطلع مايو/أيار لاحتلال وتدمير القرى المتبقية في السهل الأوسط بين الرملة واللطرون.
قامت تلك المجازر قبل إعلان "الدولة اليهودية" في 14 مايو/أيار عام 1948 وبتوجيه من قادتهم الدمويين.. فماذا حدث بعد إعلان هذه الدولة رسميًا؟ وهذه قصة مجازر أخرى.
(خاص "عروبة 22")