تقدير موقف

القضية الفلسطينية.. وضرورة نقل القيادة لجيل جديد

كما كان متوقعًا انتهى اجتماع قادة الفصائل الفلسطينية الأخير في العلمين إلى الفشل الذريع، كما فشل من قبله بأيام لقاء الرئيس محمود عباس وإسماعيل هنية في أنقرة، وكما فشلت من قبله مئات اللقاءات المماثلة منذ الانقسام الفلسطيني عام ٢٠٠٧ بين الضفة وغزة وبين السلطة وحركة "حماس".

القضية الفلسطينية.. وضرورة نقل القيادة لجيل جديد

فشل مزمن؛ ممتد لأكثر من ١٥ سنة وصراع داخلي مرير منذ توقيع اتفاق أوسلو قبل ٣٠ عامًا لا يمكن فيه الاكتفاء بتفسيرات البعض من نوع أنّ قيادات الفصائل الفلسطينية قد أصابتها البلادة السياسية وتسيطر عليها حالة عدم الاكتراث السياسي؛ فحقيقة الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، وهي تشير إلى أنّ القيادات كبيرة العمر المسيطرة على القرار السياسي في المنظمات الفلسطينية خاصة "فتح" و"حماس" ليس لديها أدنى استعداد لتغيير الوضع الانقسامي القائم، إلا إذا كان يعني فقط  الحصول على ما للطرف الثاني وإضافته إلى ما لديه حاليًا، إما أن يتنازل طرف منهما عمّا عنده لصالح إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية أو الوصول لاستراتيجية تحرّر وطني واحدة في مواجهة دولة الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري البغيض، فذلك غير مطروح.

 بعبارة أخرى، فإنّ هذه الأجيال القيادية القديمة تراكم لديها من المصالح والمكاسب والموارد والعلاقات الإقليمية والدولية ما يجعلها ترفض أيّ محاولة لتغيير الأمر الواقع الفلسطيني وتقاوم كلّ محاولة لبناء الحركة الوطنية الفلسطينية على أسس جديدة تستجيب للتغيّرات الهائلة التي حدثت في القضية الفلسطينية منذ أوسلو وحتى الآن .

المهمة التاريخية المطروحة على الفلسطينيين بناء حركة وطنية جديدة تتجاوز كل الركام القديم

وفي السياق الفلسطيني ليس لهذا الاستنتاج من معنى سوى أنّ الثورة الفلسطينية التي يوجد توافق عام على أنها بدأت مع إطلاق أول رصاصة في ديسمبر 1965 قد وصلت إلى نهايتها، وأنها بعد أكثر من خمسة عقود على استلامها قيادة الشعب الفلسطيني فقدت قوة دفعها الذاتي واضطربت بوصلتها وصارت غير قادرة على قيادة السفينة الفلسطينية التي استقلّتها أجيال جديدة أكثر حيوية وكفاءة.

ماذا يعني سدّ الطريق أمام تغيير الوضع القائم الذي سهّل على الاحتلال ومستوطنيه افتراس مزيد من الأراضي والاعتداء على مزيد من الأرواح؟؛ يعني أنّ المهمة التاريخية المطروحة في العقد الثاني من القرن الـ٢١ على الفلسطينيين لم تعد إعادة ترميم الحركة الوطنية الموجودة منذ منتصف ستينات القرن الماضي وحسب، بل بناء حركة وطنية فلسطينية جديدة تستفيد من كل منجز مؤسّسي له رمزية سياسية وتاريخية كبيرة ووضعية قانونية دولية، مثل منظمة التحرير، لكنها تتجاوز كل الركام القديم الذي بات يهدّد الوجود الفلسطيني.

3 أدلة معاصرة تشرحها السطور القادمة للدلالة على أنّ الحاجة إلى حركة وطنية فلسطينية جديدة بقيادات ومعايير جديدة باتت هي الحل، بعد أن فرغ ما في جعبة القيادات القديمة من حلول:

الأول: قيادات تسجيل المواقف

يقدّم الاجتماع الأخير في العلمين نموذجًا على أنّ القيادات الفلسطينية القديمة باتت جزءًا من المشكلة وليست جزءًا من الحلّ؛ إذ قام كل طرف من الطرفين الرئيسيين في "فتح" و"حماس" بطرح مطالب تعجيزية على الطرف الثاني وهو يعلم مسبقًا أنه لا يمكنه قبولها، ويعلم أكثر أنه ليس لديه القدرة على فرض هذه المطالب عليه؛ وبالتالي يصبح الهدف الحقيقي هو أن يبقى  الوضع الفلسطيني القائم على ما هو عليه "مزدوجًا برأسين يشلّان حركة جسده".

الرئيس الفلسطيني طالب "حماس" بإنهاء سيطرتها على غزة والاعتراف بأوسلو بما تتضمّنه من  اعتراف باسرائيل، والقبول بمقاومة سلمية لاحتلال لا يستخدم هو ومستوطنيه غير القتل، في مقابل وعد بإجراء انتخابات عامة سرعان ما سحبه باليد الأخرى عندما قال إنّ "إجراءها ليس في يده وإنما مرهون بضغط أمريكي على إسرائيل كي تقبل باجرائها في القدس أيضًا".

رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" من جهته طالب أبو مازن بقرارات تعجيزية مثل إعلان إلغاء اتفاقيات أوسلو، وهو يعلم أنه لا يستطيع ذلك بسبب معارضة النظام العربي الرسمي الذي لن يسمح للسلطة الفلسطينية بذلك، ومع علم "حماس" أيضًا أن لا حاجة لإلغاء "أوسلو" بقرار فلسطيني في ظلّ تنصّل إسرائيل من كل التزاماتها فيه، أي أنه ميت فعليًا، وكلّ المطلوب من السلطة في حدود توازن القوى الحالي تجاهل الاتفاق وإلغاء التنسيق الأمني.

كان بإمكان الطرفين أن يقبلا باقتراح اعتماد آلية قيادية مؤقتة

"حماس" طالبت أيضًا بانتخابات عامة وإعادة بناء منظمة التحرير، وهي تعلم أنه رغم صحة ذلك ديمقراطيًا إلا أنّ "فتح" لن تُجري حاليًا انتخابات عامة أو تُدخل "حماس" و"الجهاد"  للمنظمة وهي تشعر أنّ شعبيتها كسلطة في أدنى مستوى لها عند الفلسطينيين.

فضّل الطرفان تسجيل المواقف وتوجيه الرسائل المُرضية لحلفائهما في العالم والإقليم لضمان تدفّق الدعم المالي والسياسي على أن يتوصّلا لحلول جيّدة كانت في أيديهم، كأن تقبل "فتح" باعتماد حق الشعب الفلسطيني في المقاومة الشاملة بما فيها رد وردع الاعتداءات المسلّحة لجيش الاحتلال ومستوطنيه بالسلاح بدلًا من إصراره على قصرها على المقاومة السلمية في وجه آلة قتل متوحشة.

كان بإمكان الطرفين أن يقبلا باقتراح الجبهة الشعبية وآخرين باعتماد آلية قيادية مؤقتة تتمثل في اجتماع دوري أربع أو ست مرّات في العام للأمناء العامين لكل الفصائل لقيادة العمل الوطني، خاصة وأنهم جميعًا يعرفون أنّ هناك استحالةً سياسيةً في عقد انتخابات عامة خلال الظرف الراهن.

ضيّعوا الممكن من أجل المستحيل عمدًا، ولتذهب تضحيات وتطلعات شعبهم سدى.

الثاني: الإخفاق في الاستفادة من مكاسب كبرى

عندما تعجز حركة وطنية عن تطوير وضعها الداخلي وإزالة الانقسامات الذاتية التي تعوق استفادتها من مكاسب تدعم قضيتها ومصالحها الوطنية، فهذا دليل حاسم على انتهاء صلاحية قياداتها.

وفي الحقيقة، فإنّ هناك عدة مكاسب وتطورات إيجابية لصالح القضية على المستوى الفلسطيني والإسرائيلي والدولي كان من الممكن استثمارها في تحقيق تعديل نسبي في ميزان القوى لصالح الجانب الفلسطيني شرط ترتيب البيت من الداخل، منها:

- تصاعد الاحتراب الداخلي في إسرائيل لمستويات وصفت بأنها مقدمات حرب أهلية تهدّد وجودها ككيان، فلم تكن دولة الاحتلال منذ قيامها مهدّدة وجوديًا مثل هذه المرحلة، وهي تفتح بالتالي إمكانيات هائلة للفلسطينيين لم يستغلّوها في استثمار الانقسام الداخلي بالدولة العبرية وتحويل إنهماك الحكومة والجيش، بل المجتمع الإسرائيلي، في هذا الانقسام إلى فرصة لبناء وحدتهم الوطنية وتشكيل لجان مقاومة مسلّحة مشتركة تدافع عن الفلسطينيين وتصدّ وتردع اعتداءات الاحتلال والمستوطنين الهمجية عليهم.

- هذه القيادات التي شاخت على مقاعدها أخفقت في الاستفادة من مكسب كبير ألا وهو التطور الكبير في الوعي الجمعي الفلسطيني في السنوات الأخيرة، في الاتجاه نحو استراتيجيتيذ الصمود والانزراع في الأرض ورفض الاقتلاع والتهجير من جهة، والتعويل على المقاومة بكلّ أشكالها بما فيها المقاومة المسلحة لردّ العدوان اليومي من جهة ثانية، وأنّ من يقود هذا الوعي هي الأجيال الجديدة من الشباب الفلسطيني التي نفضت يدها تمامًا من "أوسلو" مدركةً أنها كانت خدعة كبرى لقضم الاحتلال للضفة والقدس.

عجزت القيادة المتكلّسة عن تطوير المكاسب إلى حركة عالمية تدعم النضال الفلسطيني وتضع إسرائيل في الزاوية

- في معركة "سيف القدس" أيضًا بزغ مكسب آخر لم يُستغلّ، فعندما تبدت فيها سوأة نظام الفصل العنصري في أبشع صورها، ليس فقط في الأراضي المحتلة بعد ٦٧ بل في فلسطين 48 وسقوط الدعاية عن الديمقراطية الإسرائيلية المزعومة بوجود مواطنين عرب إسرائيليين يتمتعون بحقوق اليهود الإسرائيليين نفسها، عاد التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني إلى مستويات غير مسبوقة في مظاهرات بمئات الآلاف في عواصم الغرب والعالم ونشوء تحالفات من حركة "حياة السود مهمّة" وقوى حقوقية ويسارية دولية لإسقاط آخر نظام فصل عنصري كسبة في جبين البشرية. وطالب حقوقيون عالميون بتحويل إسرائيل كدولة "أبارتهايد" للمحكمة الجنائية الدولية.

هذا المكسب عجزت القيادة المتكلّسة عن تطويره إلى حركة عالمية مؤسّسية تدعم النضال الوطني الفلسطيني وتضع إسرائيل في الزاوية.

- مع التراجع النسبي في نهج التحوط والحذر الصيني، واتجاه بكين إلى لعب أدوار منافسة للأمريكيين في الشرق الأوسط كما بدا من رعايتها لاتفاق التطبيع السعودي/ الإيراني، أبدى الصينيون هذا العام بوضوح استعادة واضحة لاهتمامهم القديم بالقضية الفلسطينية، خاصة مع الضغوط التي مارستها واشنطن على إسرائيل لتخفيف علاقتها مع بكين.

الصينيون لم يتحدثوا عن مضاعفة حضورهم الاقتصادي في الأراضي الفلسطيني فحسب، ولكن تحدثوا صراحة عن دور سياسي يتمثّل في المساعدة في حلّ الانقسام الفلسطيني. هذا التطوّر السياسي المهم الذي يمثّله انخراط الدولة العظمى الصاعدة لم يقابَل بما يشجعه من قيادات قديمة تمترست حول مصالحها ولم تقدّم تنازلات تساعد بكين على المضي   في عقد اتفاق مصالحة بين الفلسطينيين وبعضهم البعض، كالذي فعلته بين الرياض وطهران.

الثالث: ضعف الاستجابة لتحديات تهدّد ما تبقى من الكيان الفلسطيني

القيادات القديمة لم تكتفِ بأنها أهدرت الفرص بل زادت عليها إخفاقها في الاستجابة للتحديات  المصيرية التي تهدّد القضية الفلسطينية. إنّ الدرجات المنخفضة من النضج السياسي والمنخفضة من الشعور بالمسؤولية تتضح من ردّ الفعل الفاتر لهذه القيادات على المشروع الذي تسعى إدارة بايدن من خلاله لتحقيق نصر دبلوماسي تدخل به كورقة رابحة إلى عام الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ألا وهو إقامة تطبيع بين السعودية وإسرائيل مقابل ضمانات أمنية أمريكية بحماية الأمن السعودي والمساعدة في حصول الرياض على مفاعل نووي سلمي وعلى أسلحة أمريكية متقدّمة. والثمن كالمعتاد من "كامب ديفيد" حتى "اتفاقات ابراهام" تدفعه فلسطين ويدفعه الفلسطينيون.

كل المعطيات توحي بنهاية مرحلة وحركة وقيادة قديمة لصالح مرحلة تاريخية جديدة

هذا الثمن المطروح هو مجرد وعد إسرائيلي بتأجيل مؤقت لإعلانها الرسمي ضمّ كامل الضفة الغربية، لا حديث أبدًا في الصفقة المطروحة عن مقابل يقضي بانسحاب إسرائيلي كامل إلى ما قبل حدود ٦٧ ولا عن استعادة القدس، فقط تجميد مؤقت للاستيطان والضمّ تستولي دولة الاحتلال بعده على ما تبقى من الضفة الغربية والقدس وتترك قطاع غزة محاصرًا ومعزولًا.

كلّ المعطيات السابقة بالإضافة للتغيرات الحاصلة في المشهد الفلسطيني، بما فيها صعود الدور المقاوم والتأييد الشعبي لحركة "الجهاد" وتفكيكها النسبي لثنائية (فتح / حماس)، وصعود الجيل الجديد من الفلسطينيين الذين ينحازون لخيار المقاومة ويقودون المبادرات على الأرض رغم التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال، توحي بنهاية مرحلة وحركة وقيادة فلسطينية قديمة لصالح مرحلة تاريخية جديدة بحركة تحرّر فلسطيني جديدة تقودها أجيال جديدة أكثر وعيًا وصرامة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن