تعرضت المنطقة العربية لهجمة أوروبية استيطانية بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين، ورغم أنها رفعت شعارات دينية إلا أنّ مفاعيل الحركة في الأساس كانت اقتصادية واجتماعية تتعلق ببنية المجتمع الأوروبي الإقطاعي حينذاك، وقتها نجحت الهجمة الأوروبية في السيطرة على ساحل الشام كله، وتكوين أربع إمارات صليبية، على مساحة تشكل الآن مجمل الأراضي الفلسطينية واللبنانية والسواحل السورية وشمال العراق وجنوب تركيا.
لم يكن للمشروع الاستيطاني الأوروبي أن ينجح إلا بسبب روح الفرقة التي ضربت المنطقة بين القوى المهيمنة على بلاد الشام، خصوصًا من السلاجقة والفاطميين، ثم الانقسامات التي عصفت بين أمراء البيت السلجوقي وسط مناخ طائفي متعصب، لكن لم تمر أجيال قليلة إلا وبدأت الدول والإمارات المحيطة بالإمارات الصليبية تستشعر عمق الخطر وفداحة الخطأ مع توسع هذا المشروع الاستيطاني، بالتوازي مع استمرار روح الفرقة والتشرذم، فبدأت محاولات لتوحيد الصف لمواجهة هذا الخطر.
أنفق صلاح الدين معظم سنوات حكمه في بناء الجبهة الموحدة بين مصر والشام واعتمد على السياسة والقوة معًا
كانت البداية عبر نبذ الفرقة المذهبية، فوضعت الدولة الفاطمية يدها في يد أمراء الحرب السلاجقة في الشام، من أجل حماية ما تبقى من مدن الشام الساحلية التي لم تسقط أمام الغزو الصليبي، الأمر الذي بدأ بتحالف وزير الفاطميين القوى الأفضل بن بدر الجمالي، وأتابك دمشق طغتكين، لكن هذه المحاولات المستمرة لإقامة جبهة موحدة تتجاوز المذهبية، اصطدمت بحالة الضعف التي لا علاج لها والتي مرت بها الدولة الفاطمية في مصر خلال النصف الأول من القرن الثاني عشر، فكان أن أسقطها صلاح الدين الأيوبي؛ الذي أرسله حاكم الشام القوي نور الدين محمود بن زنكي مع قواته لحماية مصر من السقوط أمام تقدم الجيوش الصليبية، التي رأت في مصر الضعيفة فرصة ذهبية لتحقيق انتصار استراتيجي باحتلالها بكل ما لها من قيمة وثقل وموارد.
مع تولي صلاح الدين حكم مصر بعد وفاة سيده نور الدين محمود بن زنكي، عمل على بناء جبهة عمل موحدة ضد الوجود الصليبي، واستغرق هذا العمل نحو 14 سنة، من إجمالي فترة حكمه البالغة 19 سنة، أي أنه أنفق معظم سنوات حكمه في بناء الجبهة الموحدة بين مصر والشام، واعتمد على السياسة والقوة معًا، في بناء هذه الجبهة، ولم يمتعض من أن يمد يده لمنافسيه ومعارضيه ومخالفيه، فعقد معاهدة سلام سريعة مع الشيعة الإسماعيلية النزارية في الشام، كما حيّد الدولة البيزنطية، وحسن علاقاته بسلاجقة الروم في الأناضول، وفرض نفسه كحاكم أعلى على كل أمراء الشام ومصر والحجاز.
الجبهة التي أقامها صلاح الدين شملت العرب والأكراد والترك، واستخدمت موارد مصر الهائلة في شد بنيانها، واعتمد على أسطولها القوي في تأمين خطوط الإمدادات، بينما كانت بلاد الشام الساحة الأمامية للحرب، هنا نحن أمام حالة من حالات الوعي بحجم الخطر الذي يحيط بالجميع، والتي استدعت تحركات فوق مصلحية، وتنازلات من جميع الأطراف مقابل مواجهة الخطر الذي كشف عن وجهه وهدد الجميع، واستفحل ضرره حتى مس أعصاب وجود شعوب المنطقة العربية.
لا إمكانية لمواجهة الأخطار إلا بعمل مشترك يتجاوز عائق المصالح الذاتية
تكللت تلك الروح بانتصار حطين 1187م، والذي أعقبه استرداد القدس ومعظم مدن فلسطين. الدرس سرعان ما تم تجاهله بعد وفاة صلاح الدين 1193م، فانقسم البيت الأيوبي على نفسه، وتفككت الجبهة، فضاعت فرصة القضاء على المشروع الاستيطاني الأوروبي، وتأجلت لنحو قرن كامل.
هكذا يكون الثمن باهظًا لمن لا يدرك أبجديات الصراع وأدواته، فلا إمكانية لمواجهة مثل هذه الأخطار إلا بعمل مشترك يتجاوز عائق المصالح الذاتية، ليصل إلى رحابة العمل المشترك الذي يعي خطورة اللحظة، ولا ينشغل بصراعات العروش على حساب الشعوب.
إنّ المقارنة بين صلاح الدين وخلفائه مهمة جدًا في بيان المسار والمصير، بين شخص سعى لتوحيد الجبهة وتحقيق الانتصار، وبين من استخدم الأرض للمقايضة والاستعانة بالعدو للانتصار على الأخ الشقيق، بين نهج يسمو بالقضية فوق الاختلافات والخلافات، وبين نهج يستغل القضية كورقة على طاولة المصلحة، فأي طريق نختار؟ وأي نهج نعتنق؟ هذا هو سؤال التاريخ المعلّق والذي ستجيب عنه الأيام.
(خاص "عروبة 22")