أعتقد أن الحرب الشرسة على غزة كان مخططاً لها من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، سواء كانت الشرارة صغيرة مثل إطلاق بضعة صواريخ من غزة على إسرائيل، انتقاما لما تفعله في سكان الضفة أو تهويد القدس أو الاعتداء على المسجد الأقصى، أو هجوم واسع ومفاجئ مثل "طوفان الأقصى".
فالنية كانت مبيتة لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وإعادة إطلاق "الفوضى الخلاقة"، بما يؤدي إلى تعزيز الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على منطقة بالغة الأهمية، سيكون لها دور مؤثر في الصراع الدولى الذي يتصاعد بين الولايات المتحدة وحلفائها، وكل من الصين وروسيا ومعهما كوريا الشمالية وإيران، فالمنطقة بحكم موقعها الجغرافي المتميز بين الشرق والغرب، يمكن أن تعرقل أو تضيق على المشروع الصيني العملاق المعروف باسم "الحزام والطريق".
وكذلك يمكن الانطلاق من الشرق الأوسط لفتح جبهة جديدة على روسيا من الجنوب، وأعتقد أن الولايات المتحدة أدركت أنها لا يمكن أن تربح الصراع مع روسيا في أوكرانيا، بعد أن راهنت على انهيار روسيا اقتصادياً بالعقوبات الغربية الهائلة، وغير المسبوقة في التاريخ، وأعتقدت أن الانهيار الاقتصادي الروسي سيؤدي إلى هزيمتها عسكرياً، لكن ما حدث كان عكس التوقعات الغربية تماماً، وأصبح الانتصار الروسي في أوكرانيا وشيكا.
أما فتح جبهة أخرى ضد الصين فأكثر صعوبة من ربح الحرب الأوكرانية، رغم محاولات واشنطن تشكيل "ناتو آسيوي"، وتشجيع اليابان وكرويا الجنوبية على التسلح، فالقوة الصينية الاقتصادية الهائلة، تجعل الكثير من دول آسيا تميل إلى تحسين العلاقات مع الصين، بما فيها الهند، ومن الصعب إقناع أي دولة آسيوية بأن تتحرش بالصين، وتقارعها عسكرياً.
أما المواجهة العسكرية المباشرة بين الولايات المتحدة والصين على ساحة تايوان فهي قرار بالانتحار، فالقوة العسكرية الصينية نمت بسرعة فائقة خلال السنوات الأخيرة، وأصبحت تمتلك أكبر قوة بحرية فى العالم، وتنتج طائرات حربية من الجيل الخامس تقارع "الإف 35"، وأسلحة جديدة لا يدري أحد مدى قوتها، مثل القذائف الكهرومغناطيسية والليزرية وغيرها، ولأن تايوان بعيدة جدا عن الولايات المتحدة، وجزيرة ليس لها جيران في حدود برية، فسيكون من الصعب توصيل الإمدادات لها، بينما الصين على مقربة منها، وتجري مناورات محاصرتها بحرياً بين وقت وآخر، وكذلك تتمتع الصين باعتراف دولي بأن تايوان جزء منها، ولهذا لا يمكن إدانتها وفق القوانين الدولية إذا أقدمت على غزو تايوان.
هكذا لم يعد أمام الولايات المتحدة وحلفائها إلا ساحة الشرق الأوسط، التى يمكن أن تراهن عليها في الصراع المعلن مع كل من الصين وروسيا، وأنها يمكن أن تعزز الهيمنة على تلك المنطقة الحيوية إذا ما تمكنت من إضعاف إيران أو تدمير مقدراتها الاقتصادية وبرنامجها النووي، واضعاف أو القضاء على حلفائها في المنطقة، عندئذ يمكن الإطباق التام على المنطقة ومنع انضمام دولها إلى منظومة البريكس، والتحكم في سعر النفط، ومنع بيع النفط باليوان أو أي عملة غير الدولار، وإنهاء تمايل تركيا بين الشرق والغرب، ودفعها بعيداً عن روسيا والصين.
ولهذا تلتقي مصلحة الإدارة الأمريكية مع مشروع اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي وجد تشجيعاً أمريكياً على أقصى درجات الشراسة في مواجهة المحور الإيراني، وسنجد التشجيع الأمريكي واضحا للغاية، بل كانت شريكا فاعلا في كل ما ارتكبته إسرائيل، حيث زودتها بكل الذخائر والأسلحة والدعم اللوجستي، خاصة المخابراتي، بل شاركت بقوات، سواء البوارج وحاملات الطائرات، أو قوات تشارك في البحث عن المحتجزين ومحاولة إطلاق سراحهم بالقوة، أو حماية إسرائيل من أي هجوم من إيران أو اليمن أو العراق.
كما كان للدور السياسي الأمريكي في مجلس الأمن والمحافل الدولية، والضغط على محكمة العدل الدولية، دور مهم في إطلاق يد إسرائيل، لتفعل ما تشاء دون عقاب. لكل هذا لا يمكن تفسير ما تفعله حكومة نيتانياهو من تدمير واغتيالات من أجل الاحتفاظ بالحكم، أو تهرب نيتانياهو من المحاكمة، فالأمر أوسع وأخطر من ذلك بكثير، ويستحق المخاطرة والتضحيات، ويتعلق بمستقبل ومكانة أمريكا في المنطقة والعالم، لأن الشرق الأوسط المرشح بقوة لأن يكون الساحة الرئيسية للصراع الدولي بين الصين وروسيا وحلفائهما والولايات المتحدة وحلفائها، لكن الأمر لن يكون سهلا على الولايات المتحدة وحلفائها، وسيزداد صعوبة مع تدخل روسي وصيني لدعم إيران والقوى المناهضة للغرب.
(الأهرام المصرية)