تقدير موقف

المحاولة التي فشلت لاغتيال السنوار

لم يكن مختبئًا في نفق مع أطفاله، كما حاول المزيفون الإسرائيليون، والصهاينة العرب أن يروجوا، كما لم يكن قد هرب إلى مصر كما قال الإسرائيليون محاولين توريط القوة العربية التي (كانوا) يخشونها يومًا. لم يكن أيضًا "يحيط نفسه بالرهائن، ويتخذهم درعًا بشريًا يمنعنا من قتله"، كما ادعى جنرالات الجيش "الذي لا يُقهر"، والذين أوهموا مواطنيهم أنهم يعرفون أين الرجل، ولكنهم لا يريدون التضحية بأرواح الإسرائيليين المحتجزين في غزّة (!) الكذبة، كبقية الادعاءات الإسرائيلية كانت متقنة إلى درجة أنّ جريدة عريقة مثل "التايمز" لم تتردد في تصديقها، ومن ثم ذكرها في تقرير مطول عن القائد الفلسطيني.

المحاولة التي فشلت لاغتيال السنوار

بكل خسة، وبترسانة من الأكاذيب الدرامية، كانوا قد حاولوا لعام كامل اغتيال يحيى السنوار (معنويًا)، ثم كان أن "فشلت" المحاولة الدؤوب، بعد أن أظهرت صورته؛ شهيدًا ممتشقًا سلاحه، والتي نشروها بأنفسهم، كم كانوا كاذبين.

أسماه المتحدث باسم جيش "الاحتلال" بالشيطان الشرير. لا بأس، فهكذا سموا جان دارك بطلة المقاومة الفرنسية، قبل أن يعدموها بتهمة الزندقة ثم يعترفون بقداستها بعد خمسة وعشرين عامًا كاملة.

وسماه جو بايدن؛ رمز كولنيالية هذه الأيام، بـ"الإرهابي" محتفلًا باستشهاده، معلنًا أنه اتصل بنتنياهو (مجرم الحرب المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية) لتهنئته. لا بأس، فمحتفلو اليوم أنفسهم (من الكولنياليين الجدد) كانوا قد وضعوا نيلسون مانديلا على قوائم الإرهاب قبل أن يعترفوا به بعد ربع قرن في السجن، ويكرموه ويمنحوه جائزة نوبل.

قبل 7 أكتوبر بلغ عدد شهداء الحروب الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب منذ 1948 حتى 2020 نحو مائة ألف شهيد

في تعليقه لم يتردد بايدن أيضًا في أن يردد كفرد في جوقة ما كان قد قاله وزير دفاع "المحتل" قبل أسابيع محاولًا تشبيه السنوار بأسامة بن لادن غافلًا عن أنه بتشبيهه هذا يذكّرنا أيضًا، ودون أن يقصد بالطبع برسالة بن لادن الشهيرة للغرب، وللأمريكين على وجه الخصوص التي قال فيها: "كفوا عن قتلنا، وإلا كما تقتلوننا سنقتلكم".

لم تتوقف البروباجندا (المنسقة) لاغتيال صورة القائد الفلسطيني عند حد. ففي فبراير/شباط الماضي نشرت (أو بالأحرى انتشرت بفعل الذباب الإليكتروني) صورة على منصة "X" لمعتقل فلسطيني عاري الصدر مغمى العينين، مقيّد اليدين بشعر أبيض كما السنوار، يخضع للتحقيق على يد جندي إسرائيلي، وكان اللافت أنّ الصورة التي ادعوا أنها للقائد الفلسطيني نشرت بعد ساعات فقط من تصريح لوزير الدفاع الإسرائيلي يتحدث فيه عن أنهم يبحثون عن "خليفة" السنوار. كانت الصورة التى أرادوا بها أن تكون مُذلة كاذبة، وكان التنسيق ما بين التصريح الرسمي، والتغريدات المزيفة فاضحًا.

"لم يكن عاديًا"، الوصف ليس لي، ولا لأحد الحمساويين المفتونين بقائدهم، بل لمايكل كوبي، المحقق الإسرائيلي الذي قضى 150 ساعة في غرفة مع السنوار، كان نتيجتها، بعد ما يقرب من ربع قرن في السجن كتاب للقائد الشهيد يعلّم فيه الأسرى الفلسطينيين كيفية التعامل مع المحققين الإسرائيليين، "وجعلهم متوترين". مرة أخرى الكلام ليس لي، بل للضابط الإسرائيلي، الذي أدهشه كيف استفاد السنوار من فترة السجن في تعلّم التاريخ، والعبرية ودراسة الذهنية الإسرائيلية.

محقق "الشين بيت" نفسه كان كغيره مصدرًا للأكاذيب حين قال لمحرر "التايمز" أنهم شاهدوا السنوار يحمل حقيبة بها 25 كيلوجرامًا من الديناميت لتنفجر في من حوله من الرهائن إذا ما حاول الإسرائيليون قتله.

لم يتحرج الكاذبون، الذين حاولوا "اغتياله معنويًا" لعام كامل كما لم يتحرج أصدقاؤهم من الكولنياليين الجدد أن يصفوا الرجل بالسفاح لأنه خطط لقتل إسرائيليين في السابع من أكتوبر ناسيين أنهم قتلوا ما يزيد عن أربعين ألفًا (أكرر: أربعين ألفًا) معظمهم من المدنيين والنساء والأطفال (وما زالوا يقتلون)، ويريدون لنا أيضًا أن ننسى كل ما كان من جرائمهم (قبل) السابع من أكتوبر.

الأهداف المعلنة لنتنياهو من استمرار الحرب صارت أبعد

بالأرقام: يبلغ عدد الضحايا الفلسطينيين في المحاولات الإسرائيلية التي لم تتوقف للقضاء عليهم في غزّة سنوات 2008 و 2009 و 2014 ما يقرب من أربعة آلاف من الشهداء، وما يزيد عن 14 ألفًا من الجرحى وذوي العاهات، وجلهم كالعادة من النساء والأطفال. وهو ما يصل بعدد شهداء الحروب الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب منذ عام 1948 وحتى عام 2020 (أي قبل السابع من أكتوبر) إلى نحو مائة ألف شهيد. هل بدأت مأساة الفلسطينيين إذن في السابع من أكتوبر، كما تقول البروباجندا الإسرائيلية والصهيونية؟ أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون أكذوبة كبرى حاولوا بها "اغتيال المقاومة" ومفهومها النبيل مثل كل الأكاذيب التي حاولوا بها لعام كامل "اغتيال السنوار" معنويًا.

وبعد،

فتبقى حقيقة أنّ الصورة التي احتفى بها الإسرائيليون لجنودهم المدججين بالسلاح يحيطون بجثمان الشهيد ليست صورة للنصر كما يريدها نتنياهو ووزير حربه، فـ"حماس"، مثلها مثل كل منظمات المقاومة في العالم، تعرف كيف تتعافى، واغتيال قادتها، وهو نهج مستمر للإسرائيليين الذين اغتالوا زعيمها الروحي (المقعد) الشيخ أحمد ياسين على كرسيه المتحرك على باب مسجد، قبل عشرين عامًا كاملة، لم يضعفها أبدًا بل على العكس تمامًا، والسابع من أكتوبر الذي جاء بعد اغتيال طابور طويل من القادة السياسيين والعسكريين (الرنتيسي، ويحيى عياش مثالًا) دليل على ذلك. بل ربما لا أكون مبالغًا، إذ يشاركني الرأي كثير من المحللين الإسرائيليين (العقلاء) حين أقول إنّ الأهداف المعلنة لنتنياهو من استمرار الحرب، والتي تمثل تعريفه للنصر الكامل كما يسميه صارت أبعد، وأولها مسألة الأسرى الإسرائيليين (يسميهم رهائن)، ناهيك عن ما يسميه "الاجتثاث الكامل"  لحركة "حماس".

كما تبقى حقيقة أنّ من العار أن نقرأ في صحيفة إسرائيلية عشية استشهاد السنوار مانشيتا يتحدث عن "انقسام" الإعلام العربي حول ما جرى "بعضهم احتفل بموته"، هكذا تقول الجريدة الإسرائيلية!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن