ثقافة

المنظومة التعليمية في تونس: أزمة التعليم الجامعي (3/3)

نُنهي هذه السلسلة من المقالات المخصّصة لأزمة التعليم في تونس مع وقفة ذات صلة بالبنية الأساسية والبشرية لقطاع التعليم، والموزعة على مؤسّسات التعليم العمومي والخاص، ثم وقفات عند معالم الأزمة نفسها في حقل التعليم الجامعي، قبل استعراض بعض نقاط القوة أو النقاط الإيجابية في الحقل التعليمي نفسه، لأنّه موازاة مع استفحال الأزمة، نعاين عدّة إنجازات تحققت في الساحة، مقارنة مع دول الجوار المغاربي.

المنظومة التعليمية في تونس: أزمة التعليم الجامعي (3/3)

تنتشر على مختلف جهات البلاد التونسي 291 مؤسّسة تعليم عالي منها 207 مؤسّسة عمومية و84 مؤسّسة خاصّة معترف بها، 13 جامعة ترابية، خمس منها في تونس الكبرى والبقية في مختلف جهات البلاد.

تُعتبر ميزانية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي منذ أواخر السبعينات متواضعة، ورغم الاعتمادات الإضافية التي خصّصت لها مؤخرًا غير أنّها تظلّ محدودة ومتواضعة لا تتناسب ودورها المفترض، من ذلك بلغت2277,238 مليون دينار سنة 2024 مقابل ميزانية تناهز 2153,250 مليون دينار سنة 2023، أي بزيادة قدّرت بـ5,8 بالمائة.

تمثّل هذه الميزانية نسبة 3,81 بالمائة من إجمالي ميزانية الدولة وتتوزّع على نفقات التأجير بـ1575 مليون دينار فيما تقدّر نفقات التسيير بـ1513 مليون دينار وتخصّص للتدخلات 238 ألف دينار، في حين يعرف حجم الطلبة في القطاعين العمومي والخاص نحو 305635 ألف، موزعين بين القطاع العمومي 260707 والقطاع الخاص 44928 (2022-2023).

كان تقرير دائرة المحاسبات للفترة ما بين 2011 و2016 قد سجّل تجاوز 9 مؤسّسات خاصة لطاقة الاستيعاب عند تسجيل الطلبة وبلغ هذا التجاوز في بعض الحالات 4 أضعاف. كما لم تتثبت من مدى توفير إطار التدريس القار ونسب التأطير القانونية من قبل هذه المؤسّسات بالنسبة إلى إطار التدريس العرضي.

أمّا بالنسبة إلى الهيئة التدريسية في التعليم العالي العمومي، فتعرف نقصًا واضحًا مقارنة بحجم الطلاب، وذلك نتيجة التأخير في دورات الانتداب والترقية السنوية، التي عرفت تراجعًا منذ سنة 2017 ليصل اليوم إلى أربع سنوات، وهو يعني التخلي الفعلي عن الانتظام السنوي لدورات الانتداب والترقية بالإضافة إلى الهجرة المكثفة للأساتذة برتبهم المختلفة نحو بلدان الخليج العربي وأوروبا وبلدان شرق آسيا (حوالى 1900) وهو ما يُمثّل نسبة 56.18 في المائة من إجمالي المدرسين الباحثين، إضافة إلى الجامعيين الذين استقالوا وغادروا البلاد نهائيًا مضطرين بعد أن ضاقت بهم السبل (حسب أرقام 8 يناير/كانون الثاني 2023)، بحثَا عن وضعية أفضل بسبب تردي وضعهم الاجتماعي.

ضعف التكوين لدى الأساتذة والإداريين وغياب الابتكار في تجديد المناهج والبرامج وانخفاض المستوى المعرفي للطلاب

لا تتوقف معاناة الأستاذ الجامعي على المستوى المادي بل يعاني من مشاكل بيداغوجية. فبموجب القانون الأساسي، يؤمن الأستاذ التدريس والتأطير، والقيام بالبحث العلميّ (الإنتاج العلمي أحد أهم شروط الارتقاء). أمّا على المستوى البيداغوجي والعلمي فتعرف الجامعة التونسية عامّة العديد من المشاكل ونقاط الضعف الأمر الذي يؤثر بعمق على مستواها، ومن نتائج ذلك:

- تراجع جودة التعليم في المؤسّسة التعليمية وعدم تأهل الإدارة لمواكبة الإصلاح الجامعي، سواء لأسباب ذاتية أو لأسباب موضوعية تتعلق بنقص الأطر والكفاءات الإدارية وضعف تكوينها.

- اختلال العلاقة بين مكونات الحقل الجامعي (إداريين، أساتذة، طلبة) وضعف التواصل بينها.

- اختزال العلاقة بين الطالب والأستاذ وهي في الغالب علاقة نفعية (الامتحانات والدرجات).

- الاعتماد على الحفظ والتلقين عوض التفكير والتحليل والاستنتاج وتنمية الحس النقدي لدى الطلبة.

- انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية في الجامعات العلمية والمدارس العليا التقنية مما أثقل كاهل الأسر التونسية.

- ضعف التكوين المستمر لدى الأساتذة والإداريين، وغياب المبادرة والابتكار في تجديد المناهج والبرامج (أغلبها مستنسخٌ من دول أخرى خاصّة فرنسا) التي تتميّز في أغلبها بالرتابة والجمود دون تجديد.

- انخفاض المستوى المعرفي للطلاب عند الالتحاق بالجامعة.

- غياب تفاعل هذه المؤسّسات مع بيئتها المحلية والوطنية، وغياب إدارة الجودة والمشاكل التي تطرحها فيما يتعلق بالتدريب التربوي للمعلمين ولغة التدريس.

- ضعف الاندماج في المحيط الاقتصادي والاجتماعي، ويتجلى ذلك بتضخم عدد الدكاترة العاطلين عن العمل نتيجة عدم الانتداب في الجامعات أو لضيق سوق العمل ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة من بين حاملي الشواهد العليا لتصل إلى 23,4% خلال الثلاثي الأول من سـنة 2024 (مقابل 23,2% خلال الثلاثي الرابع من سنة 2023 و23,1% خلال الثلاثي الأول من سنة 2023). وتقدر هذه النسبة لدى الذكور خلال الثلاثي الأول من سنة 2024 بـ13,8% بينما بلغـت 31,2% لدى الإناث. (حسب الإحصائيات الرسمية) وعلى خلفية ذلك لم تعد للشهادة الجامعية المدخل الطبيعي والمميّز للحياة المهنية.

رغم كل الإكراهات والصعوبات لا يمكن أن نغيّب الإنجازات التي حقّقتها الجامعات التونسية على المستوى العالمي

- غياب استراتيجية تشاركية خلاقة بين كل الفاعلين في المجال، وتعزيز المنجز العلمي وتقويته بالبحث المفضي إلى الانتاج الجديد المواكب للتحولات والمستجدات في الواقع الإنساني والمجتمعي.

- إصرار الوزارة على مواصلة الاعتماد على نظام الإجازة والماجستير والدكتوراه، رغم الانتقادات التي طالت هذا النظام سواء من قبل الطلبة أو الأساتذة أو المشغلين، نظرًا لعدم توفر الإمكانيات المادية واللوجستية والبشرية، والذي أدّى إلى توليد مشاكل جديدة وتضخيم القديمة من ذلك انخفاض مستوى الطلاب عند الالتحاق بالجامعة.

ورغم كل هذه الإكراهات والصعوبات التي يعرفها قطاع التعليم العالي، لا يمكن أن نتجاهل أو نغيّب الإنجازات التي حقّقتها الجامعات التونسية على المستوى العالمي، إذ احتلت تونس المرتبة العاشرة من بين 130 دولة من حيث عدد المقالات العلمية والتقنية، والمرتبة الخامسة عالميًا في نسبة المتحصلين على الشهادات الجامعية في العلوم والدراسات الهندسية قياسًا بعدد السكان، والمرتبة الثالثة في البرنامج الدولي للبحث العلمي بعنوان "الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية والنمو الاقتصادي في حوض المتوسط"، كما ظهرت خمس جامعات تونسية في التصنيف العالمي لأفضل الجامعات سنة 2024 الذي يشمل 2000 جامعة ويُعدّه سنويًا مركز تصنيف الجامعات العالمي، وحقّقت خمس جامعات التونسية تقدمًا في ترتيبها حسب الترتيب الجديد لتصنيفات الجامعات العربية، حسب تقرير تحت عنوان "Times Higher Education"، صادر في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وذلك مقارنة بالتصنيف المتعلّق بسنة 2022.


لقراءة الجزء الأول، الجزء الثاني

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن