وجهات نظر

"السخرية" من المقاومة!

لا يتردد خصوم نهج المقاومة ولو للحظة واحدة عن الإقدام على فعل أي شيء يمكن أن يقوض أركانها ويضع نهاية لها، وفي البدء كانت اتهامات عدم الرشادة والعمالة، فكيف تهاجم المقاومة من هم أقوى منها بآلاف المرات؟، فتتسبب في كل ما حدث من قتل ودمار بين مواطنيها، متجاهلين أنّ كل حركات التحرر بلا استثناء بدأت مقاومة الاحتلال وميزان القوى بينها وبينه شديد الاختلال، لكن إيمانها بقضيتها واحتضان شعوبها لها وأساليب الكفاح المسلح وغير المسلح التي اتبعتها، والدعم الخارجي الذي تلقته أحيانًا من قوى اتفقت معها في الأهداف، كلها عوامل تكفلت بتحقيق النصر لها في النهاية.

ثم كانت اتهامات الانحراف الفكري والسياسي بالخضوع لحسابات جماعة "الإخوان المسلمين" والعمالة لإيران، متغافلين أنّ المقاومة ليست "حماس" و"الجهاد" و"حزب الله" فحسب، وإنما هي حالة وطنية عامة، وإن كان الدور القيادي فيها لهذه التنظيمات، ومتغافلين كذلك أنّ التناقض مع العدو الإسرائيلي له الأولوية على ما عداه من تناقضات ثانوية إن هي قورنت بالتناقض بين الكيان الصهيوني وبيننا.

فئة قليلة تقاتل من أجل حرية شعبها في ظل حصار خانق صمدت لأكثر من سنة أمام عدوان همجي

وعندما تلقى "حزب الله" الضربات الموجعة الأخيرة أُضيفت الشماتة والسخرية إلى الاتهامات السابقة، ومنطق السخرية عند الساخرين أنّ المقاومة ظاهرة صوتية جعجعت كثيرًا وهددت وتوعدت وأرغت وأزبدت، ثم ها هي تسقط في أول اختبار جاد مع العدو، وهذا بالمناسبة غير صحيح بدليل جولة ٢٠٠٦ بين إسرائيل و"حزب الله"، ويواصل الساخرون أنّ الضربات الأخيرة أكدت أنّ المقاومة كتاب مفتوح أمام إسرائيل التي اخترقتها أمنيًا على نحو فادح، سواء بسبب التقدم التكنولوجي، أو قدرتها على تجنيد العملاء، وبالتالي ليس أمام المقاومة سوى الاستسلام بعد أن تأكدت معادلة التفوق الإسرائيلي بما لا يدع مجالًا لأي شك.

وليست السخرية من المقاومة بالظاهرة الجديدة، ويذكر المتابعون لمجريات الصراع كيف كانت السخرية من المقاومة على أشدها عندما بدأت إطلاق الأجيال الأولى من صواريخها في ٢٠٠٧، وكيف كان الساخرون يشبهونها بالمفرقعات التي يلهو بها الأطفال في الأعياد، ثم كيف أخذت المقاومة تطور من قدراتها على نحو بطيء ولكنه أكيد، حتى وصل الحال إلى ما يمكن وصفه بأنه قدرة ذاتية للمقاومة على الصناعة العسكرية مكنتها من الصمود لأكثر من سنة حتى الآن في وجه جيش يوصف من البعض بأنه رابع أقوى جيش في العالم، ناهيك بالدعم المطلق من الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم ليس بالمال والسلاح والمعلومات الاستخبارية والغطاء الدبلوماسي فحسب، وإنما هذه المرة بالمشاركة المباشرة العلنية في المجهود الحربي الإسرائيلي، كما يبدو في الهجمات على الحوثيين الذين يساندون المقاومة في غزّة، وفي تزويد إسرائيل بمنظومة "ثاد" الأمريكية المتطورة القادرة على اعتراض الصواريخ الباليستية الفرط صوتية مع أطقم تشغيلها الأمريكية، بعد أسبوعين من تلقي إسرائيل ضربة من إيران شملت إطلاق نحو٢٠٠ صاروخ، وما خفي كان أعظم.

من تُراه الأجدر بالسخرية؟ فئة قليلة تقاتل من أجل حرية شعبها تعيش في ظل حصار خانق ومُحْكَم، ولا تتلقى منذ أكثر من سنة أي دعم خارجي ومع ذلك صمدت لأكثر من سنة أمام عدوان همجي؟، أم قوة إقليمية كبرى مدعومة على نحو مطلق بالدولة الأقوى عسكريًا في العالم ومع ذلك عجزت خلال المدة نفسها عن تحقيق أهدافها الرئيسية في الحرب حتى الآن؟. والأكثر من هذا أنّ قوى المقاومة في فلسطين ولبنان ما زالت قادرة على الصمود والاستمرار في إيلام العدو اتساقًا مع الخبرة التاريخية لحركات التحرر الوطني في جميع أنحاء العالم.

جذوة النضال لا يمكن أن تنطفئ طالما استمر الاحتلال

ادعى خصوم المقاومة الراغبون في تصفيتها والخلاص منها دائمًا عبر مراحل التاريخ وتنوع تجارب التحرر أنهم ينطلقون من الحرص على مصالح شعوبهم، وإنقاذهم من الويلات التي تسببها لهم المقاومة قتلًا وتدميرًا، وهو ادعاء باطل يُكَذبُه التاريخ، فقد بدأ ما يُسَمَّي بالاستعمار بالقتل والتدمير، ورسَّخ أقدامه في المستعمرات بالقتل والتدمير، وامتص دماء الشعوب وثرواتها عبر العقود، ولم تبدأ أركانه في الاهتزاز إلا بالمقاومة على تنوع أشكالها، ودفعت الشعوب أثمانًا باهظة في حروب التحرير من أجل أن تنعم الأجيال التالية بحياة آمنة مطمئنة بعد التحرير، وها هم أبطال المقاومة الآن في فلسطين ولبنان يصنعون التاريخ ويستشهدون مقاتلين وقادة ليقوم بعدهم من يحمل رايتهم، ويواصل النضال من أجل الحرية حتى النصر، ويثبت للغاصبين أنّ جذوة النضال لا يمكن أن تنطفئ طالما استمر واقع الاحتلال والسيطرة والاستغلال البغيض.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن