عند الحديث عن الجمهورية الإسلامية في إيران وسلوك مسؤوليها وطبيعة الحكم فيها فإن ذلك لا صلة له بالحضارة الفارسية إطلاقا؛ إذ لا يختلف اثنان على عراقة هذه الحضارة الضاربة في أعماق التاريخ، فالحضارة الفارسية بثقافتها العريقة شيء والدولة بأجهزتها شيء آخر مختلف تمامًا. إن مثل هذا التمييز في اعتقادي مهم منهجيًا حتى يتبين القارئ الكريم أن نقد سلوك القائمين على الشأن الإيراني اليوم يتعالى على المنطقين الشعوبي والمذهبي وسردية التفاضل بين الثقافات والأجناس والأعراق التي نعلم جميعًا أنها بوابة من بوابات الفتن والحروب.
الواضح للعيان أننا نعاين منذ أربعة عقود ونيف سلوكًا للدولة في إيران ولمسؤوليها من أهم صفاته عدوانيته الغريبة وعدم اتساقه مع المنطق وغياب انسجامه مع مبادئ العقل خاصة فيما يتعلق بالشأن الديبلوماسي وعلاقات إيران بغيرها من الدول شرقية كانت أم غربية، جنوبية وشمالية وخاصة منها الدول التي حكمت عليها أقدار الجغرافيا أن تكون لإيران جارة.
ولئن وجدت هذه العلاقة لها اليوم شيئًا من الاستقرار مع روسيا والصين فظني أنه استقرار مؤقت تفرضه حاجة إيران في بحثها عن حلفاء تشد بهم أزرها لفك عزلتها الدولية ولمواجهة الولايات المتحدة والدول الأوروبية حتى تستكمل العمل على برنامجها النووي إذا تسنى لها ذلك طبعًا، لأن إيران ابى حكامها إلا أن يجعلوها رهينة دوامة من التوترات والأزمات تكاد لا تنتهي أو تتوقف عند حد، فما أن يخرج هذا النظام من إشكالية ما مع دولة ما من دول العالم حتى يجد نفسه وقد وقع في غيرها أشد منها تعقيدًا.
الغرابة الآنف ذكرها تتجلى بتمامها وكمالها ووضوحها في العلاقات المرتبكة وغير المستقرة لإيران مع دول مجلس التعاون التي نعرف جميعًا عراقة صلاتها ببلاد فارس منذ عصور ما قبل الإسلام فنحن نظريًا أمام علاقة تمتد جذورها عميقًا في الحضارة والتاريخ العربيين، غير أن المستجد في هذه العلاقة - وهو مكمن الغرابة - تبني إيران لأكثر من 47 سنة عجاف سلوكًا متقلبًا في عدوانيته بين التهديد والوعيد خطابًا، والتآمر وزرع الفتن سلوكًا.
ومن الإشكاليات المقيمة في ذهن المسؤولين الإيرانيين مسألة عروبة البحرين والجزر الإماراتية؛ إذ بين الفينة والأخرى يخرج عليك مسؤول إيراني، بأي صفة حكومية كان، ليتطاول على استقلال دول اعترف العالم كله باستقلالها وبسيادتها وصار لها منذ عهود مكان ومكانة في الساحة الدولية بمختلف منظماتها وهيئاتها. وإذا ما طلبنا لمثل هذه السلوك الأهوج تفسيرًا فلعلنا نجده في فكرة الثورة المثبتة في الدستور والتي تلوثت بها أذهان حكام إيران راديكاليين كانوا أم إصلاحيين، وهي فكرة لها استتباعاتها وخاصة منها واجب تصديرها إلى دول العالم الذي يرتقي عند الجماعة إلى مرتبة الواجب الشرعي والديني بحكم هيمنة المنوال الثيوقراطي على تصورهم للحكم والعالم.
وفضلاً عن ذلك كثيرًا ما يبدي بعض المسؤولين الإيرانيين تبجحهم بالسيطرة على أربع عواصم عربية ليصبح بذلك التطاول على البحرين والإمارات والتفاخر بالهيمنة الملوثة بدماء الأبرياء على عواصم عربية منهجًا سياسيًا في التعامل مع الدول العربية، ومعيار فرز في علاقات طهران بهذه الدول، فمن لا يقف معها ويناصرها في مختلف مغامراتها العسكرية والاستخباراتية والسياسية هو ضدها!
مسألة عدم استقرار العلاقات مع إيران سببها الصلف الإيراني والغرور الذي يصدمه واقع النمو الاقتصادي والتطور السياسي الذي تشهده دول مجلس التعاون عامة ومملكة البحرين خاصة، فهذا التطور يثير حنق إيران باعتبارها دولة ترقد على إمكانات اقتصادية صخمة ولا تستطيع استثمارها بما ينفع شعوبها. فنحن، إذا ما قارنا، وضع دول مجلس التعاون بإيران لوجدنا أن دول مجلس التعاون مهتمة بالتنمية وإقامة المشاريع الاقتصادية العملاقة، وتعمل على توفير مزيد من الحريات والديمقراطية لمواطنيها، وتسعى حثيثًا إلى توسيع مساحات التعاون مع دول العالم قاطبة؛ حتى إنك لا تكاد تجد دولة لها علاقة سيئة مع دول مجلس التعاون، إلا إيران لأنها ببساطة اختارت العداء سلوكا.
لقد جندت إيران كل جهودها وإمكانياتها لنشر الخراب في الإقليم، وعملت من خلال تدخلاتها في شؤون غيرها من الدول على دق إسفين من العداوة بين مكوناتها الاجتماعية، وخير شاهد على ذلك الوضع في اليمن والعراق ولبنان وسوريا. مع ملاحظة أن سوريا تتحلل رويدًا رويدا من عبء تحالفها مع إيران لصالح شعبها وقوميتها والتنمية فيها.
إيران، أيضًا، صرفت المليارات من الدولارات وأنفقت كثيرًا من الوقت على مشاريع كان مردودها عقوبات اقتصادية وعزلة دولية، ولهذا قدر ساستها بأن أفضل الطرق لصرف أنظار الإيرانيين عن إخفاقاتهم الداخلية تصدير مشاكلهم إلى خارج الحدود؛ لإقناع الإيرانيين بأن الأولوية المطلقة هي لمسؤوليات الثورةالإيرانية والتزاماتها تجاه الغير! وهكذا هو الحال مع القضية الفلسطينية التي لا شأن لإيران بها فهي قضية عربية رأت فيها إيران وسيلة إذا ما استثمرتها فسيكون سبيلاً يمهد لها مد نفوذها.
على المسؤولين في إيران أن يوجهوا اهتمامهم لتنمية بلادهم، وأن يكبحوا جماح تطلعاتهم الإمبراطورية، فعهد الإمبراطوريات قد ولى بلا رجعة، والوقت تغير، وعليهم أن يفهموا أن دول مجلس التعاون عامة -ومملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة خاصة - منهمكة في معركتها الاقتصادية والتنموية للحاق بركب الأمم المتقدمة قلبًا وقالبًا، وعليهم أخيرًا أن يفهموا أن تصريحات خرازي ومن سبقه، حول عروبة مملكة البحرين والجزر الإمارتية ليست سوى ثرثرة نسمعها على مدى أكثر من 74 عامًا، ولكننا رغم إدراكنا لطبيعتها تلك فإنها عندنا مرفوضة لأنها طعن صريح في وطنيتنا وانتمائنا العربي الأصيل، وليست سوى جعجة خاوية لا يجب أن تغير من واقع عروبتنا وإسلامنا شيئًا، ولا ينبغي أن تشغلنا عن تعزيز مكتسباتنا الوطنية.
(الأيام البحرينية)