مطلع الشهر الجاري، وخلال الاحتفال بالذكرى الـ"51" لانتصارات أكتوبر/تشرين الأول 1973، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي على أنّ "السلام العادل هو الحل الوحيد، لضمان التعايش الآمن بين شعوب المنطقة"، مجددًا دعوته لضرورة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، كسبيل وحيد لإرساء السلام والاستقرار للجميع.
ورغم ما يمكن فهمه من تلك التصريحات "التطمينية"، إلا أنّ الإعلام العبري رأى في العرض العسكري الذي تم تنظيمه بـ"شكل مبالغ فيه"، وما سبقه من استعراض للقوات والمعدات القتالية في عروض عسكرية أجراها الجيش المصري خلال هذا العام، "رسالة موجهة لإسرائيل"، تفيد بأنّ السلام الذي عُقد بين القاهرة وتل أبيب قبل نحو 4 عقود ليس أبديًا.
مصر تدرك أنه ليس من مصلحتها خسارة "حماس" و"حزب الله" كما ليس من مصلحتها ضرب إيران
مجلة "يسرائيل ديفينس" تساءلت في تقرير نُشر الأسبوع الماضي، عن الأسباب التي دفعت مصر لاستعراض قوتها العسكرية في ذكرى حرب 1973، بينما حذر تقرير أخر نشره موقع "epoch" من "نوايا مصر الخفية تجاه إسرائيل".
الموقع العبري كان أكثر وضوحًا عندما وصف ما تقوم به مصر من تسليح مكثف ومتسارع بـ"مؤامرات على ضفاف النيل"، وتساءل: "ما هي الحرب التي تستعد لها مصر.. وما علاقة ذلك بفك الارتباط بمحور فيلادلفيا؟". ودعا الموقع إسرائيل إلى ألا تغفو "عما تكيده لها مصر"، لافتًا إلى أنّ "القاهرة لا تريد لإسرائيل أن تهزم حماس"، محذرًا من مواصلة تعزيز الجيش المصري لقواته في سيناء على نطاق واسع.
وقبل أيام أعربت صحيفة "معاريف" العبرية أيضًا عن عدم ثقة إسرائيل بمصر وجيشها، واعتبرت أنّ اتفاقية السلام الموقعة مع القاهرة "على صفحات جميلة وحسنة الصياغة، لم تعد تلزم الطرف الآخر فعليًا ولا تساوي الورق الذي كُتبت عليه".
وفي الصحيفة ذاتها نقل الصحفي بيليد أربالي عن مصدر سياسي رفيع، اتهامًا مباشرًا لمصر بانتهاك اتفاقية السلام، واقترح المصدر أن توجه بلاده "إنذارًا نهائيًا لمصر"، يتضمن الدعوة إلى المساعدة في إنشاء ترتيب سياسي أمني مستدام لإسرائيل في غزّة، وإلا فإنّ القاهرة "ستعاني من عقوبات أمريكية خانقة، على خلفية الانتهاك العسكري لاتفاقية السلام".
تحذيرات الإعلام العبري وتهديداته المبطنة لمصر، ما هي إلا ترجمة مباشرة لرسائل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي لم يخفِ رغبته في الهيمنة على الشرق الأوسط بالكامل، محذرًا دول الإقليم من أنّ يد إسرائيل الطولى ستصل إلى كل شبر في المنطقة.
لن يتوقف العدوان الإسرائيلي على غزّة ولا على لبنان بتحركات دبلوماسية أو بضغوط شكلية من حلفاء تل أبيب في الغرب، فشهية إسرائيل مفتوحة على التخلص من كل ما يمثل تهديدًا لمشروعها التوسعي، وهو ما تدركه دول المنطقة لكنها لم تتحسب له ولم تتوافق على الحد الأدنى لسبل مجابهته، فلا يزال معظمها يراهن على الحليف الأمريكي في وقف حرب الإبادة القائمة وفرملة رغبات الكيان، وهو رهان ثبت بالتجارب أنه خاسر كلية، فيما ينفذ بعضها دورًا وظيفيًا لصالح الأجندة الأمريكية الصهيونية، وهم الفئة الأخطر على الأمّة.
تدرك دوائر السلطة في مصر أنّ حكومة نتنياهو لا تريد إنهاء الصراع الجاري بأية صيغة، بل إنها تسعى إلى تأجيجه وتوسيعه، بما يدعم طموح اليمين الإسرائيلي بـ"خلق شرق أوسط جديد".
رغم خلافها السياسي والإيديولوجي مع "حماس" و"حزب الله"، إلا أنّ مصر تدرك أنه ليس من مصلحتها خسارتهما المعركة ضد إسرائيل، كما أنه ليس من مصلحتها أيضًا ضرب إيران وإخراجها من معادلة الردع الإقليمي، ويدرك القائمون على الأمور في القاهرة أنّ تصاعد خسائر جيش الاحتلال على كل الجبهات هو السبيل الوحيد حتى ينزل نتنياهو من على الشجرة، ويقبل بوقف الحرب وفق شروط تقبلها جميع الأطراف.
تدهورت العلاقات المصرية الإسرائيلية خلال الشهور الماضية، ووصلت إلى حد تخفيض مستوى العلاقات بشكل "غير معلن"، إذ لم تعتمد مصر سفيرًا جديدًا لإسرائيل في القاهرة، كما لم ترسل سفيرًا جديدًا لها إلى تل أبيب بديلًا عن السفير السابق خالد عزمي.
ويعتبر مصدر مقرب من دائرة صنع القرار أنّ هذا الموقف من القاهرة يمثل "الحد الأدنى من رد الفعل على التعنت الإسرائيلي سواء في تمرير صفقة الرهائن ووقف إطلاق النار أو في الانسحاب من معبر رفح وممر فيلادلفيا أو حتى في عودة السلطة الفلسطينية لإدارة المعبر من الجانب الفلسطيني".
السلطة المصرية باتت تقدّر أكثر من أي وقت مضى أنّ دخولها دائرة النار صار مسألة وقت
بالطبع لا يوازي رد الفعل المصري "الدبلوماسي"، مستوى الإجرام الإسرائيلي، ولن يوقف طموح نتنياهو ورفاقه الذين أعلن بعضهم، عن نواياهم باحتلال سيناء مجددًا بعد سيطرتهم على قطاع غزّة وإعادة الاستيطان إليه.
السلطة المصرية، باتت تقدّر أكثر من أي وقت مضى أنّ دخولها دائرة النار صار مسألة وقت، وأنّ استمرار نتنياهو وائتلافه الحاكم قد يحوّل "السلام البارد" الذي استمر منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي إلى "مواجهة ساخنة".
فهل مصر على استعداد لخوض تلك المواجهة المؤجلة؟.. وهل ما تبقى من النظام العربي راغب في استعادة ذاكرة التضامن التي مكنتنا من حسم المواجهة عام 1973؟.. وهل تعلم كل الأطراف العربية أنّ المبادرة الآن واستخدام كل طرف لما يملكه من أدوات لوقف العدوان على فلسطين ولبنان قد يعفينا ولو "مؤقتًا" ولحين ترتيب أوراقنا من مواجهة حتمية؟.
(خاص "عروبة 22")