الصداقة بين الدول، كما العداوة، تحكمها المصالح، خطاب الصداقة العاطفي ليس له وجود حقيقي على أرض السياسة، وفي العلاقة مع الدولة العظمى شرط الصداقة هو التبعية، أن تكون كلمتها هي العليا، وتقدّم الولايات المتحدة الأمريكية النموذج العملي في التعامل مع الأصدقاء والحلفاء كأنهم قطع شطرنج فوق رقعة البيت الأبيض.
لو وُضع العرب جميعًا في كفة ووُضعت إسرائيل في كفة لرجحت الكفة الإسرائيلية في الموازين الأمريكية
المشكلة ليست عند الجانب المسيطر، تبقى المأساة لدى الأطراف التي تتوقع غير ذلك من أمريكا، والأسوأ أنّ بعض النخب الحاكمة في بلداننا ما تزال - رغم السجل الحافل لواشنطن - تتعامى عن تلك الحقائق. بل يتطوع بعضها بقصر نظر فادح إلى التفريط بحقائق أمنها القومي مفسحة المجال للتحكم في سياستها الداخلية والخارجية وفي اقتصادها بل وفي ثقافتها.
في منطقتنا العربية يتناسى بعض العرب أنهم لو وُضعوا جميعًا من مشرقهم إلى مغربهم في كفة، ووُضعت إسرائيل في كفة، لرجحت الكفة الإسرائيلية في الموازين الأمريكية، وتاريخ الصراع العربي الصهيوني شاهد.
أذكر أننا كنا في مهمة صحفية، مجموعة من الزملاء العرب، وثلاثة من الأجانب، كان الفرنسي متحاملًا على العرب منحازًا إلى إسرائيل يدافع عنها في كل صغيرة وكبيرة، تأكد لي أنه مطلع على تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية بشكل خاص، وله علاقات وثيقة مع الكثير من زعاماتها الطائفية.
على الجانب الآخر كان الصحفي الروسي الذي يحمل اسمًا إسلاميًا يقوم بدور "حمامة السلام" بيننا وبين الصحفيين الأجانب، خاصة في مواجهة صلافة الأمريكي وتكبره ونحن نواجه رؤيته التي لا يمل من تكرارها عن العرب الذين يستأهلون الحال التي هم عليها، وأنهم في نظره اختاروا عمدًا ومع سبق الإصرار أن يبقوا في ذيل الأمم.
ظل الصحفي الأمريكي يردد أنّ العرب هم أقل شعوب الأرض رغبة في التقدّم، وأكثرها جريًا وراء ملذاتهم، وأنهم يسارعون في القتال فيما بينهم وتأجيج نيران الخلافات الصغيرة حتى تتحول إلى حروب بلا نهاية.
أكثر ما لفتني في حديثه المتعجرف وصفه للعرب بأنهم يتخاذلون في الدفاع عن مصالحهم، ويختبئ كثير منهم في الحظيرة الأمريكية بحثًا عن الأمان من أخطار ليست حقيقية، أو هي على الحقيقة أخطار وهمية صُنّعت لهم، وصُدّرت إليهم، وصارت تحرك سياساتهم، وتطبع نظرتهم إلى الأمور.
في واحدة من أمسيات النقاش الحاد مع الأمريكي بمتابعة زميله الفرنسي، توجه لي متسائلًا في تشفٍ فقال: أمريكا هذه التي تنظر إليها هذه النظرة العدوانية، وتسبغ عليها كل هذه الأوصاف المحفوظة في أرشيف الايدولوجيات القومية واليسارية، هذه الأمريكا أليست هي صديقة العرب الوحيدة في العالم؟.
صدمني السؤال. فواصل الأمريكي كأنه ينكأ الجراح التي لم تندمل: منذ اعترفت أمريكا بإسرائيل وحتى اليوم وهي على طول الخط مساندة وداعمة لها بالسلاح والمال والديبلوماسية والتكنولوجيا وبضمان أمنها وضمان تفوقها على العرب مجتمعين، يكاد كل فيتو اتخذته أمريكا في مجلس الأمن الدولي يتعلق بإسرائيل حماية لها من أي إدانة أو حتى استنكار.
ثم علت وجهه ابتسامة صفراء وهو يقول: "أنت تعلم يا صديقي أنّ العرب يكرهون أمريكا، بينما حكوماتهم على علاقة حميمية معها".
والحق أنه وافقني على أنّ سياسة واشنطن هي التي تخلق تلك الكراهية الشعبية لأمريكا، وقال لك كل الحق في ذلك، وقد قيل في أمريكا نفسها إنّ المشاعر المعادية للولايات المتحدة يمكن أن تنحسر إذا توقفت واشنطن عن الدعم الكامل لإسرائيل أولًا، وإذا ابتعدت عن مساندة الحكام المستبدين في بلاد العرب ثانيًا.
ليس بوسع واشنطن أن تضحي بمصالح حيوية لها يكفلها بقاء الديكتاتوريات العربية من أجل إقامة نظم ديمقراطية
واستطرد يؤكد أنّ الرد الأمريكي على هاتين القضيتين واضح بدون لبس: "إسرائيل بالنسبة لنا قضية أمن قومي"، ولعلك تذكر أنّ السيناتور الأمريكي جو بايدن قال من قبل بالنص: "لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان على أمريكا خلق إسرائيل لحماية مصالحها في المنطقة".
أما عن مساندة أمريكا للديكتاتوريات العربية فقد أثبتت التجربة أنه ليس بوسع واشنطن أن تضحي بمصالح حيوية لها يكفلها بقاء تلك الديكتاتوريات من أجل إقامة نظم ديمقراطية لن تكون في النهاية لمصلحة أمريكا.
كتم غيظه وهو يطلق في وجهي السؤال: كيف يمكنك أن تقنعني أنّ شعبًا بكل هذا التعداد، وعلى هذه الرقعة الجغرافية الأهم في العالم، ولديه كل هذه الثروات الطبيعية التي يحتاج إليها العالم كله لم يدرك حتى اليوم عدوه من صديقه؟
عليكم أن تسألوا أنفسكم قبل أن تلومونا: كيف يكره العرب إسرائيل ويحبون أمريكا؟
تقولون ليل نهار إنّ إسرائيل ليست إلا أداة في يد واشنطن، في الوقت الذي تحجون إلى قبلتكم السياسية، في البيت الأبيض، وراعيكم الأول الذي يشارككم مواردكم، وينصر عليكم عدوكم.
اسألوا أنفسكم لماذا هذا الحب القاتل؟
مرت على هذا الحوار الصريح الموجع سنوات طويلة، تذكرت بعضه اليوم ونحن نواجه حربًا أمريكية إسرائيلية بدعم غربي غير مسبوق على غزّة ومن بعده على لبنان، وسط تواطؤ وخذلان عربي مخجل.
ما لا أنساه أنّ الحديث انتهى بيننا حين وجه الأمريكي إلينا نصيحته المبكية: "إذا أردتم النجاة فعليكم أن تواجهوا الحقائق ولو لمرة واحدة قبل أن يتحوّل عالم العرب من دول تابعة لواشنطن، إلى دويلات تتبع إسرائيل".
(خاص "عروبة 22")