لقد أدى تلاشي الهندسة الاجتماعية التقليدية للمجتمعات العربية، وتصدع منظومة القيم المحلية أمام هيمنة الأنموذج القيمي والحضاري المُعولم، إلى استفحال وضع التيه الحضاري والثقافي للشعوب العربية الخارجة لتوها من الصدمة الاستعمارية، كما أدى إلى رسم ملامح مجتمع عربي جديدة قائم على توزيع مُستحدث لأدوار مختلف الفاعلين المجتمعين، وهندسة اجتماعية مُنقطعة عن جذورها، وتوجهات اقتصادية أربكت الانتقال المجتمعي وفاقمت معاناة الأسر العربية، كان بعضها سببًا في نزوع أجيال عديدة من الشباب العربي نحو التطرّف والراديكالية، وذلك في غياب المواكبة القائمة على تصوّر حقيقي لحاجيات المجتمعات العربية اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا.
واقع التلاشي وغياب البديل
إنّ إعادة تعريف أدوار الأسرة العربية على ضوء المتغيّرات المجتمعية الراهنة جعلها تتخلى عن عدد كبير من أدوارها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أنّ مسألة التضامن العائلي والقبلي التي كانت محددًا رئيسيًا في رسم ملامح زيجات الماضي، لم يعُد لها الوزن ذاته والتأثير ذاته في زمننا الحاضر، فتلاشي الشبكات العائلية والقبلية وتغيّر أنماط العيش والعمل وضع محددات جديدة، كانت سببًا مباشرًا في ارتفاع معدل سن الزواج إلى مستويات قياسية وغير مسبوقة وارتفاع نسب العنوسة والعزوف بشكل كبير بين مختلف فئات الشباب.
ظهرت الحاجة بشكل متعاظم إلى خلق نظام تعليم أولي وأنظمة لدعم الشباب وتوجيههم
لقد دفعت هذه التحولات إلى تلاشي معظم الأدوار التي كانت تقوم بها الأسرة في السابق، حيث ظهرت الحاجة بشكل متعاظم إلى خلق نظام تعليم أولي وحضانة يُعهد إليها بتربية وتعليم الرضع والأطفال الصغار منذ الأشهر الأولى التي تلي ولادتهم، كما أصبحت الحاجة متعاظمة إلى أنظمة لدعم الشباب وتوجيههم وتوفير التمويل لهم إن أرادوا خلق مشاريع خاصة بهم، كما أصبحت الحاجة مُلحة لتأسيس منظومة لحماية ورعاية المسنين بعد أن عجزت الأُسر النووية والأحادية عن القيام بهذا الدور المرهق والمكلف في الآن ذاته، فأسرة اليوم مُنهكةٌ اقتصاديًا ومُقيّدة زمنيًا وعاجزة عن تقديم العناية اللازمة للأشخاص المسنين، خاصّة إذا تطلب الأمر رعاية صحية طويلة الأمد، وهو ما أضعف قدرتها على المقاومة والصمود والتأقلم وعجل بانهيارها في ظل تعاقب الأزمات الاقتصادية وتعاظم ضغوط وتكاليف الحياة.
أيّ بديل منتظر؟
أنهك هذا التلاشي المادي والقيمي الأسرة النووية العربية التي أضحت أُسرة متعبة ومثقلة بتكاليف الحياة العصرية والقيم الاستهلاكية، وذلك في غياب بديل عربي قائم على هندسة مجتمعية عصرية وتوجهات اقتصادية فعالة، تراعي المقومات المحلية وتستحضر الحاجيات الحقيقية والخصوصيات الثقافية والتراثية والسياسية أيضًا للشعوب العربية.
لقد عجّل هذا الوضع بتأسيس واقع مجتمعي جديد، تبدت ملامحه بشكل جلي خلال العقدين الأخيرين، فرض على المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني ملء الفراغات التي خلفها انسحاب الأسرة والعائلة والقبيلة، الأمر الذي ألقى بثقل كبير على عاتق الفاعل الحكومي على وجه الخصوص، الذي حاول تبني عدد من الاستراتيجيات والسياسات والبرامج سعيًا لتعويض تلاشي المنظومة المجتمعية التقليدية وتدارك الزمن التنموي المهدور.
إنّ تعاظم الأعباء الاجتماعية لدى معظم الدول العربية، خاصّة تلك المرتبطة بتأهيل منظومتي التربية والتكوين وتأسيس نظام رعاية صحية وحماية اجتماعية فعال، تُنذر بصعوبات جمة، ستفاقم الضغط على الموازنات العامة لعددٍ كبيرٍ من الدول العربية على المدى المنظور، في محدودية مواردها، وهو أمرٌ يستدعي وضع تصور شمولي للنهوض بها واستدامة تمويلها، تجنبًا لانهيار وإفلاس بعضها كما يحدث الآن مع أنظمة التقاعد التي تآكلت احتياطاتها الاستثمارية واختلت مواردها المالية وأضحت قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس.
يجب تأسيس منظومة فعالة للتعاون العربي في مجال الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية
إنّ التحديات المجتمعية والاقتصادية التي تواجهها الدول العربية تتقاطع فيما بينها بشكل كبير، بالنظر إلى القواسم المشتركة اجتماعيًا واقتصاديًا وتاريخيًا التي جمعت ولا تزال الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، وهو مُعطىً يقتضي التعاطي المشترك لمواجهة التحديات سالفة الذكر، مع التذكير أنّ الحلول الأحادية أتثبتت قصورها في زمن التكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى، وفي سياقٍ موسومٍ بتعاقب الأزمات واشتدادها، وهو ما يقتضي مرة أخرى ترجيح كفة المصلحة العليا لشعوب المنطقة، والعمل على تأسيس منظومة فعالة للتعاون العربي في مجال الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية، وكذلك على مستوى التكوين والتربية والتعليم إلى جانب تفعيل مختلف اتفاقيات التجارة والتعاون الاقتصادي لمواكبة التحولات الراهنة والتأسيس لأنموذج مجتمعي واقتصادي عربي مُندمج في محيطه الدولي وسياقه التاريخي يراعي حاجيات المواطن العربي وخصوصياته ويقدّم له بديلًا لطالما انتظره.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")