تضمّن المشروع التمهيدي للموازنة الجزائرية 2025، عرضًا نقديًا لآلية الدعم الاجتماعي للسنة المالية المقبلة، من دون أن يكشف عن مقترحات حكومية له أو عن رُزنامة تُؤطر وتُنظم عملية الانتقال إلى دعم جديد يستفيد منه المستحقون الحقيقيون فقط، وهم الفقراء والمعوزون وأيضًا أصحاب الدخل الضعيف، وهي الترتيبات التي باشرتها السلطات الجزائرية عام 2022 فتم الإعلان عن تشكيل لجنة وطنية أُسندت لها مُهمة مراجعة آلية الدعم الذي تمنحه الدولة للطبقات الفقيرة وإسناد المستوى المعيشي والتمهيد لرفع الدعم التدريجي عن أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية من أجل إصلاح الموازنة والإنفاق العام للدولة الجزائرية.
وتستعد الحكومة الجزائرية لتنفيذ أكبر موازنة في تاريخ البلاد قيمتها 126 مليار دولار، وتُمثل التحويلات والإنفاق الاجتماعي نسبة 35.3% من هذه الموازنة في سياق ما تعتبره الحكومة الجزائرية تعزيزًا للطابع الاجتماعي للدولة. والملفت للانتباه ارتفاع قيمة الأموال الموجهة للتحويلات الاجتماعية (دعم الأسعار ومنح الفئات الضعيفة وذوي الحقوق) حيث بلغت 5.9 تريليونات دينار (ما يعادل 44 مليار دولار) رغم الدعوات المتوالية لإصلاح هذا النظام الذي خلف آثارًا عميقة على الاقتصاد المحلي وتوازنات الخزينة العمومية المالية كما خلق اختلالات متعددة الأوجه، وهو ما سنحاول حصره عبر قراءات خبراء الاقتصاد في الجزائر.
الاختلال الأول يرتبط بالجانب المالي، إذ يقول في هذا المضمار الخبير الاقتصادي الدولي والأستاذ في جامعة سطيف، فارس حباش، إنه "عبء كبير تتحمله الخزينة العمومية والتي لا حُدود مالية لها، لأن سياسة الدعم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمواد غذائية وطاقوية مدعومة وكما هو معلوم فإنّ أسعار هذه المواد غير ثابتة وقابلة للتغيّر بين الحين والآخر، وبارتفاعها فإنّ الدولة هي من تتحمل الفارق للحفاظ على القدرة الشرائية للجزائريين".
ومن الأسباب الأخرى التي تدفع الحكومة الجزائرية إلى حتمية إصلاح نظام الدعم الاجتماعي أو التخلي عنه، يُشير حباش لـ"عروبة 22" إلى أنّ "نظام الدعم الاجتماعي لا يذهب بشكل كُلي إلى جميع مستحقيه، بحيث يستفيد منه التجار وأصحاب الفنادق والمطاعم ورجال الأعمال، بالرغم من أنّ الدعم يجب أن يذهب إلى فئة مُحددة".
ويتفق معه في الطرح، الخبير الاقتصادي د. عبد الصمد سعودي، قائلًا لـ"عُروبة 22" إنه "بالرغم من أنّ سياسية الدعم الاجتماعي هي من مبادئ 1 نوفمبر 1954 (الوثيقة الأولى التي أعلنت عن اندلاع الثورة ضد المستعمر الفرنسي) فالدولة الجزائرية عرّفت نفسها منذ البداية على أنها دولة اجتماعية، لكن بمرور الوقت أثقلت هذه السياسة ميزانية الدولة وأصبحت تهدد التوازنات الاقتصادية لا سيما وأنها تتراوح بين 25% و 35% وهي في ارتفاع مستمر، الأمر الذي لمسناه مؤخرًا عندما قررت الحكومة الجزائرية تخصيص غلاف مالي لتعويض الفارق بين أسعار شراء مادة البن من الأسواق العالمية".
ومن التداعيات السلبية التي نتجت عن التحويلات الاجتماعية في دعم الأُسر والمواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع، اتساع رقعة التهريب عبر الحدود وهو ما خلف جراحًا غائرة في الاقتصاد الوطني، فلا يكاد يمر أسبوع دون أن تتصدّر قضايا التهريب في الولايات الحدودية عناوين الأخبار في الصحف والمواقع الإلكترونية.
وحسب حصيلة الجيش الجزائري لعام 2023، والتي اطلعت عليها "عروبة 22"، فقد أوقفت قوات الجيش المُرابطة على طول الحدود 15150 مهرّبًا واسترجعت 4445 طنًا من المواد الغذائية، مُسجلةً بذلك ارتفاعًا مقارنة بعام 2022 حين تم توقيف 11050 مهرّبًا، واسترجعت 2543 طنًا من المواد الغذائية، و1.9 مليون لتر من الوقود، و300 ألف لتر من المشروبات.
وتتطلب مسألة إصلاح الدعم الاجتماعي حلولًا اقتصادية وتقنية بحتة، يذكر من بينها الخبير الاقتصادي الدولي فارس حباش، ضرورة الانتقال من الدعم الشامل إلى الدعم الموجّه وهذا مرتبط بحتمية المرور إلى التحوّل الرقمي الشامل من أجل حصر الساكنة والأُسر والأفراد المؤهلين للحصول على المساعدة أو الدعم من الدولة، وستساعد الرقمنة في القضاء على مبدأ المساعدات المعممة والعشوائية التي أصبحت تدعم الأكثر ثراءً من بين الجزائريين!.
المُقترح نفسه تقدّم به الخبير الاقتصادي د. عبد الصمد سعودي، مشددًا على ضرورة "التوجّه إلى استراتيجية إصلاح شاملة للذهاب نحو الدعم الموجّه"، ولن يتأتى هذا إلا باستكمال عملية الرقمنة التي شهدت عملية متسارعة في عام 2023.
ويبقى إصلاح نظام الدعم الاجتماعي أمر مُسلّم به لدى السلطة الحالية، غير أنّ تنفيذه بالطريقة الصحيحة التي تضمن القدرة الشرائية للطبقات الهشة والمتوسطة مرهون باستكمال رقمنة القطاع، وهُو ما أكده وزير المالية الجزائري لعزيز فايد، لدى رده على انشغالات أعضاء مجلس الأمّة بخصوص نص قانون المالية التصحيحي لعام 2023، إذ كشف أنّ "هذا الملف موجود على طاولة الحكومة منذ صدور المادة 187 من قانون المالية لسنة 2020"، موضحًا أنّ "المراجعة ستكون للذهاب نحو الدعم الموجّه"، لكنه وصف الملف بأنه "معقد وحساس لارتباطه الوثيق باستكمال رقمنة القطاع، حيث يرتقب أن تجهز مصالح وزارة المالية بـ"مركز بيانات" فعّال خاص بالمستفيدين الحقيقيين للحد من الاستحواذ على الدعم أو تهريبه أو تصديره.
(خاص "عروبة 22")