كما كنا أشرنا في المقال نفسه إلى محدّدين اثنين على الأقل من أجل تفعيل هذا الخيار، أولهما الدور الكبير والمتصاعد للعالم الرقمي، وثانيهما ضرورة وعي دوائر صناعة القرار في المنطقة بدور وأهمية الظاهرة. ونروم في هذه المقالة الثانية استحضار بعض المحددات أو العوامل التي نزعم أنها مؤهلة لكي تغني الفكرة/ المقترح، ويتعلق الأمر بالعديد من العوامل، وإن ارتأينا هنا التوقف عند اثنين منها.
يهمّ العامل الأول أهل التنظير القومي، لأننا نتحدث عن مشروع لم يصدر من فراغ، وإنما انطلاقًا من تراكم في التنظير قبل المرور من مرحلة التفعيل والتطبيق، بصرف النظر عن القلاقل والمشاكل والأزمات التي مرّت منها ثنائية التنظير والتطبيق المرتبطة بالأفق القومي، ويمكن العودة إلى أعمال اشتغلت على الموضوع، سواء جاءت في صيغة إصدارات، لعلّ أهمها أو أشهرها كتاب "نقد الخطاب القومي" للكاتب عبد الإله بلقزيز، والصادر منذ عقد ونيف عن مركز دراسات الوحدة العربية، كما يمكن قراءة مقالات نزهة بوعزة في هذه المنصة التي تشتغل على الموضوع نفسه، انطلاقًا من أرضية نظرية مركبة، بما فيها أرضية الأدبيات الألمانية في الفلسفة السياسية، ضمن مراجع أخرى.
النخب الفكرية القومية في أمسّ الحاجة إلى استحضار الدور المفصلي للثورة الرقمية في التأثير على أحداث العالم
ما يهمّنا هنا وعي الأقلام القومية بتأثير وأدوار المنعطف الرقمي في الساحة، وهو منعطف اتّضح أنه كان متواضعًا إجمالًا لدى أغلب النخب العربية في الساحة، وخاصة قبيل العقد الماضي، وتحديدًا قبيل اندلاع أحداث 2011، والحديث هنا عن تواضع وعي النخب السياسية والفكرية والدينية وغيرها، وضمن النخب الفكرية، عاينا التواضع نفسه لدى النخب القومية، باستثناء ارتفاع مؤشر هذا الوعي لدى الأقلام الإسلامية الحركية، حيث كانت سباقة إلى توظيف واستثمار هذا المنعطف بما يخدم مشروعها، والحديث هنا عن الاتجاهات الثلاث في العمل الإسلامي الحركي، أي العمل الدعوي والعمل السياسي والعمل القتالي أو المسمّى العمل "الجهادي"، ولكن هذا موضوع آخر.
جاءت أحداث 2011 وكشفت للجميع أهمية الثورة الرقمية، وانتظرنا بضع سنوات حتى نعاين صدور أولى الأعمال حول الموضوع، وخاصة الأعمال المترجمة، وإن كان عددها متواضعًا مقارنةً مع ما هو سائد خارج المنطقة العربية، من قبيل الإصدارات الكمية والنوعية التي تعجّ بها الساحة الأوروبية، ضمن مجالات ثقافية أخرى.
النخب الفكرية القومية في أمسّ الحاجة إلى استحضار الدور المفصلي التي تقوم به الثورة الرقمية في التأثير على أحداث العالم، مع الإشارة هنا أننا نتحدث عن تأثير مركّب يهمّ الفكر والمخيال والواقع، ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل إحصاء معالم هذا التأثير، لأنه أصبح عالميًا وتتداخل فيه عوامل سياسية وفكرية وأمنية واقتصادية وسلوكية وغيرها، ونحن بالكاد في أولى محطات معاينة تأثيرات وتفاعلات هذا المنعطف الرقمي مع العالم المادي. وواضح أنّ معالم هذه التوعية المطلوبة من النخب الفكرية القومية تحتاج بدورها إلى تفصيل، لكن نكتفي هنا بإثارة انتباه من يهمّه الأمر، ولعلّ صدور مقالة للكاتب سعيد بن سعيد العلوي مؤخرًا هنا بمنصة "عروبة 22" بعنوان "نحن والإنترنت" بتاريخ 6 تموز، تندرج بشكل أو في هذا السياق، ولا نريد حاليًا طرق باب تقييم وتقويم تفاعل الخطاب العربي القومي مع المنعطف الرقمي لاعتبارات عدة، نتركها لاحقًا.
نأتي للعامل الثاني، ويهمّ تفاعل رموز ظاهرة المؤثرين أو نسبة منهم مع مقتضيات الخيار أعلاه، أيّ الانخراط في ترويج الخطاب القومي عبر المنصّات الرقمية، خاصةً أنّ ما يصدر عنهم من أعمال يترك أثرًا لدى الرأي العام إلى درجة الحديث عن مؤثرين رقميًا.
من أجل تفعيل هذا الخيار مع هذه الفئة، هناك اتجاهان اثنان على الخصوص: الأول أن تكون هذه الفئة مؤمنة بالفكرة القومية أو الهمّ القومي، والحال أنّ هذا احتمال ضعيف لعدة اعتبارات أهمها حضور الهاجس الربحي في عمل هذه الفئة، أي هاجس جلب المعجبين والمتتبعين، إلا إن انخرطوا في الأمر من منظور تطوعي وهذا احتمال نادر أساسًا، بما يُحيلنا على البديل الثاني.
"معيقات سياسية" من قبيل الخلاف بين المغرب والجزائر.... وارتفاع وتيرة المصالحات عامل يقزّم تأثير تلك المعيقات
يُفيد هذا الاتجاه الانخراط في شراكات أو تعاقدات بين أهل الفكرة ورموز ظاهرة المؤثرين، وهذا أمر جاري العمل به في العالم بأسره، مؤسَّس على ما يُشبه دفتر تحملات والتزامات، هدفه خدمة هدف مشترك، وهو هدف مشروع من وجهة أهله على الأقل، ما دام همّه خدمة الصالح العربي.
لا يمكن بالطبع صرف النظر عن معيقات هذا الخيار، وفي مقدّمتها المعيقات السياسية التي تعجّ بها المنطقة العربية، بل إننا نعاين أحيانًا حتى معيقات سياسية في مجال عربي إقليمي، من قبيل الخلاف السياسي القائم بين المغرب والجزائر، فالأحرى ما نعاينه في مجالات أخرى، لكن ارتفاع وتيرة المصالحات السياسية خلال السنوات الماضية بين العديد من دول المنطقة، يُعتبر عاملًا محفّزًا يقزّم من تأثير تلك المعيقات على تحقيق الخيار سالف الذكر.
(خاص "عروبة 22")