ما يعنينا في الشرق الأوسط بعد إعلان فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة في السنوات الأربع المقبلة 2025 – 2028 لا ينفصل عما يعني العالم، لكنه يزيد، لأن المنطقة تشهد حرب إبادة وحشية، استباحت فيها إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة حق شعوب عربية أن تعيش في أمان، كما انتهكت سيادة دول عربية، جوا أو برا، أو بحرا.
الضحية الأولى في هذه الحرب هو الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض لحرب إبادة شاملة، وسط عجز دولي وإقليمي. الرئيس المنتخب الذي يتسلم مهامه في 20 يناير/كانون الثاني المقبل طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي أن «ينهي المهمة» قبل أن يدخل هو إلى البيت الأبيض، ولم يطلب أبدا وقف الحرب.
ما يريده دونالد ترامب في فترته الرئاسية الأخيرة، ليس أن يذكره العالم بأنه "صانع حروب" ولكن بأنه "صانع سلام"! وكان قد قال في أحد مؤتمراته الانتخابية: "أريد أن أرى الشرق الأوسط يعود إلى السلام الحقيقي، السلام الدائم، وسوف ننجز ذلك على النحو الصحيح، حتى لا يتكرر كل 5 أو 10 سنوات". كما أننا نعرف ما قاله بشأن إنهاء حرب أوكرانيا في يوم واحد!
ماذا يعني وقف الحرب؟
من مصلحة ترامب أن ترحل الإدارة الديمقراطية عن البيت الأبيض وهي تجر أذيال الفشل، تمهيدا لفوز آخر للجمهوريين بعده، ومن ثم فإن وقف الحرب في الشرق الأوسط، يجب أن ينتظر حتى يكون هو سيد البيت الأبيض، وحتى يكون الفضل له في إخماد الحرب التي اشتعلت خلال رئاسة بايدن. ومن المرجح أن يقود هذا إلى قيام حكومة نتنياهو بالمزيد من الانتهاكات الإنسانية البشعة في حق الشعبين الفلسطيني واللبناني في الأسابيع المقبلة، رغم الاتصالات الجارية من أجل الاتفاق على ترتيبات لوقف إطلاق النار في جنوب لبنان.
وليس من الغريب أن الإعلان عن هذه الاتصالات ترافق مع إعلان قرار رئيس الأركان الإسرائيلي يوم الإثنين الماضي توسيع نطاق العملية البرية في جنوب لبنان. ومن المحزن في الوقت نفسه أن يتلقى الشعب الفلسطيني الصامد الضربة تلو الضربة، في غياب أي مساندة حقيقية تساعده على استمرار الصمود، مع صمت رسمي عربي ودولي، رغم محاولة استصدار قرار من مجلس الأمن بوقف القتال. نتنياهو مصمم على إنهاء الحرب بثلاثة شروط هي هزيمة حماس، ونزع سلاح حزب الله، وإزالة أي تهديد مستقبلي لإسرائيل.
كما أن فريقه المعاون في رسم "خطة الخروج من الحرب" يميل إلى فصل وقف إطلاق النار في لبنان عن القتال في غزة، وأن تكون أي مفاوضات تحت النار. خطة الخروج من الحرب تتضمن أيضا تأسيس إدارة مؤقتة في غزة، حتى يتم تشكيل ائتلاف عربي – اسرائيلي – فلسطيني. وتتألف الإدارة المؤقتة من لجنة التنسيق الحكومية في الأراضي المحتلة COGAT والجيش، وجماعات من العملاء، أو المعروفين بعدم العداء لإسرائيل. وسيظل وجود الجيش الإسرائيلي مركزيا في هذه الخطة لسنوات طويلة مقبلة، قد تصل إلى 30 عاما.
ويتم حاليا تفعيل الخطة، من خلال حملة التطعيم ضد شلل الأطفال بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، وفتح فصول دراسية بديلة عن مدارس الأونروا، وإنشاء هيكل جديد لتوزيع المساعدات يضمن استخدامها كسلاح لتدجين الفلسطينيين. وطبقا للخطة لن يبقى قطاع غزة على حاله، مع تعميق فصل الشمال عن الجنوب. وربطه بإسرائيل.
ومع أن قضية المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس تشكل الخط الرئيسي لحركة الدبلوماسية الأمريكية الرسمية، حتى موعد تسليم السلطة للإدارة الجديدة، فإن هذه القضية تقع على هامش اهتمامات كل من نتنياهو وترامب. ويقول البعض في إسرائيل إن حياة المحتجزين ليست أغلى من الذين راحوا في الحرب. ويرى نتنياهو شخصيا أن هذه الحرب يجب أن تكون الأخيرة، وأن إسرائيل يجب أن تنتصر على كل أعدائها في المنطقة، وهو ما يتقدم على هدف إعادة المحتجزين. ورغم أن الإدارة الديمقراطية الحالية ليس لديها ما تخسره في حال الضغط على إسرائيل، سواء بتجميد السلاح، أو الامتناع عن استخدام الفيتو، وهو إجراء اتخذه أوباما في نهاية عام 2016، فليس من المتوقع أن تلجأ إلى ذلك.
المتغير الروسي
ليس سرا أن ترامب وبوتين تربطهما علاقة خاصة، تجعل التفاهم بينهما ممكنا بشأن قضايا مفصلية في الاستراتيجية الوطنية، لكل من الولايات المتحدة وروسيا، ولذلك فإننا نتوقع أن تكون هذه العلاقة واحدا من مدخلات إدارة إعادة ترتيب الأوضاع في مناطق تتجاوز مجرد إنهاء الحرب في أوكرانيا وتهدئة الصراع في الشرق الأوسط، بما في ذلك إيران. ما يتردد حاليا بشأن مشروع اتفاق لوقف الحرب الإسرائيلية على لبنان يمثل أحد مخرجات الدور الروسي المتوقع، حتى قبل أن يتسلم ترامب مقاليد الحكم رسميا.
ونستطيع أن نقول بلا تردد إن ظِل ترامب يحجب دور إدارة بايدن في الشرق الأوسط حاليا، وإنه يمثل أحد محركات عمل شخصيات مثل انتوني بلينكن وجاك سوليفان. بوتين كلف مسؤوليه بإجراء اتصالات في دمشق وتل أبيب بشأن لبنان، منها ما يتعلق بمزاعم إسرائيل بشأن تهريب الأسلحة من سوريا، وما يتعلق بشروط إسرائيل بالنسبة لوقف إطلاق النار في جنوب لبنان، بعد ذلك أرسل نتنياهو وزير الشؤون الاستراتيجية رون درمر إلى موسكو لإجراء مباحثات حول الموقف ككل مع المسؤولين الروس.
هذا يمثل تطورا جديدا، ربما يفتح أمام موسكو أبواب لعب دور أكبر في تهدئة الوضع في الشرق الأوسط، بحيث تبذل الدبلوماسية الروسية مجهودا في طهران، لتقدير مدى إمكان وقف التصعيد. وعلى الرغم من الضجيج الإعلامي حول توجيه ضربة إيرانية إلى إسرائيل، أو توجيه ضربة وقائية إسرائيلية إلى إيران، فإن عملية صناعة السياسة الفعلية كما تجري في البلدين، لا تشير إلى ذلك في الوقت الحالي. الموقف الذي يمكننا تأكيده هنا هو أن إسرائيل تفضل إضعاف إيران من خلال ضرب حلفائها الإقليميين، وأن إيران تفضل مواجهة إسرائيل بشكل غير مباشر من خلال دعم "محور المقاومة"، أي تفضيل المواجهة على أرض طرف ثالث. الخط الأحمر الذي رسمته إسرائيل لاستراتيجيتها تجاه إيران، كما نعرف، هو امتلاك السلاح النووي، وهو ما يمثل اختبارا حاسما للاستراتيجية الإيرانية، أن تعبر هذا الخط بأقل الخسائر الممكنة.
التطبيع السعودي – الإسرائيلي
تربط السعودية ببرنامج ترامب السياسي والاقتصادي روابط قوية جدا؛ فسياسته الخارجية تبدأ من المصلحة الأمريكية وتنتهي عندها، وهو ما يمثل ضمانا لاستقرار النظام في السعودية، لتوافق المصالح تقريبا، طالما أن السياسة الأمريكية تستبعد المعايير المرتبطة بـ"القيم". أما في السياسة الاقتصادية فإن ترامب يشكل سندا كبيرا للسياسة السعودية، في محاولة تأخير تنفيذ أهداف برنامج الأمم المتحدة للبيئة، وإطلاق عمليات التنقيب عن النفط والغاز بلا حدود، وما يعني ترامب حاليا هو الوصول إلى خزائن السيولة المالية العميقة في السعودية، والحصول منها على أكثر ما يستطيع، مقابل برامج الأمن ومبيعات السلاح. كما أنه يريد أن تكون السعودية ممولا رئيسيا لأعمال إعادة البناء في غزة، وشريكا في إقامة نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط تحلم به إسرائيل، حيث إنه لا الولايات المتحدة تريد أن تتحمل تكلفة إقامة هذا النظام، ولا إسرائيل تملك الإمكانيات.
وتتبنى واشنطن وتل أبيب مفهوما مشتركا تجاه "التطبيع"، منطوقه أن "التطبيع هو ثمن الأمن" الذي ستحصل عليه السعودية بمقتضى ترتيبات النظام الإقليمي الجديد. ولأننا نعرف في الفكر الاستراتيجي، أن الطلب على الأمن يزيد مع زيادة التهديدات، فسيكون من مصلحة كل منهما أن يبقى في المنطقة القدر من التهديد الذي يكفي لزيادة الطلب على الأمن، ومن ثم توسيع نطاق الدور الأمريكي – الإسرائيلي المقبول في المنطقة.
كذلك فإن السعودية تريد أن تقدم نفسها باعتبارها الطرف الذي يستطيع تحقيق قبول إسرائيل والتعاون معها بواسطة الدول العربية والإسلامية. بمعنى آخر لا تريد الدبلوماسية السعودية أن تتقدم على طريق التطبيع، وكأنها تسير في ركاب الدبلوماسية الإماراتية، التي جعلت توقيع «اتفاقيات أبراهام» ممكنا عام 2020.
ما تفعله الدبلوماسية السعودية حاليا هو إقامة منتدى للحوار "العربي - الإسلامي - الأمريكي" منذ زيارة ترامب للرياض عام 2017. الآن يتم تجديد هذا المنتدى استعدادا لإطلاق عملية سياسية تستهدف حل الصراع في الشرق الاوسط نهائيا، "حتى لا يتجدد كل 5 أو عشر سنوات"، إذا استعرنا مضمون السلام الذي تحدث عنه ترامب في حملته الانتخابية. الرياح الحالية تقود سفينة الشرق الأوسط في هذا الاتجاه. ومن ثم فإن قواعد اللعبة في الشرق الأوسط تتغير، والطريق إلى تحقيق أهداف الكفاح الوطني الفلسطيني يحتاج إلى توسيع نطاق الخيارات.
(القدس العربي)