تنقسم الساحة اللبنانية بين مساعي المفاوضات الهادفة لإرساء تسوية سياسية لم تنضج ظروفها بعد وبين معارك الميدان المحتدمة التي يريدها كلا الطرفين، أي "حزب الله" واسرائيل، أن تعزز فرصهما لتحقيق مكاسب. وتحت وابل النيران والقصف المستمر والعنيف الذي يطال مختلف القرى والبلدات اللبنانية تريد تل أبيب أن تقود تفاوضاً "تحت النار" يتخطى عودة سكان المستوطنات الى الشمال بل يكرس واقعاً جديداً لوجود "حزب الله" في الجنوب أولاً والقضاء على ترسانته العسكرية ثانياً.
وعليه، يشهد لبنان تصعيدًا ميدانيًا كبيرًا يترافق مع معارك عسكرية إسرائيليّة ومحاولات توغل بري في ما يسمى "خط القرى الثاني" حيث ينفذ العدو سلسلة من العمليات جنوب لبنان، وذلك غداة اعلانه عن توسيع العملية البرية ودخولها مرحلة ثانية، تريدها اسرائيل أن تشكل فرصة لتعزيز موقعها التفاوضي. في وقت يحاول "حزب الله"، من جهته، ضبط ايقاع التدخل البري وقلب المعادلات لتصب في صالحه.
ووفق هذا السياق، تتحرك جهود الديبلوماسية التي نشطت بعد زيارة الرئيس المُنتخب دونالد ترامب إلى البيت الابيض واللقاء الذي جمعه بالرئيس جو بايدن بعد سنوات من المقاطعة والتراشق الكلامي. وأيضاً يتزامن مع ما نقلته صحف عبرية عن "هدايا" يريد رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو تقديمها لترامب مع دخوله البيت الأبيض، وهو ما يعكس النشوة ومحاولات توظيف الانتخابات الاميركية لصالح مشروع اسرائيل التوسعي في الشرق الأوسط.
والتوسع هذا يشمل مع قطاع غزّة ولبنان الساحة السورية التي باتت تتعرض بشكل شبه يومي لقصف وغارات مكثفة على معاقل ميليشيات أو أطراف موالية لايران، وعلى رأسهم "حزب الله". وآخر هذه العمليات كانت أمس، الخميس، حيث سجل سقوط ما لا يقل عن 20 شخصاً وعشرات الاصابات جراء غارات إسرائيليّة استهدفت حي المزة في دمشق، ومدينة قدسيا في ريفها الغربي.
وبحسب وسائل إعلام عبرية، فإن القصف الإسرائيلي استهدف مقرات لحركة "الجهاد الإسلامي" في العاصمة دمشق وريفها. وأظهرت مقاطع مصورة بثّتها وكالة أنباء النظام "سانا"، دماراً هائلاً يحاكي ما نراه في غزّة ولبنان. وتزامنت هذه الغارات مع الزيارة التي يقوم مستشار المرشد الإيراني علي لاريجاني إلى دمشق قبل أن يحط رحاله اليوم في بيروت، حيث سيلتقي رئيس مجلس النواب نبيه بري لمناقشة مسودة المقترح الأميركي التي تسلمها الجانب اللبناني أمس من السفيرة الأميركية في بيروت ليزا جونسون.
وفي هذا الصدد، تحدثت وسائل إعلامية عن تقديم جونسون نسخة من مسودة الحل الديبلوماسي بين لبنان وإسرائيل بصياغة أميركية نيابة عن آموس هوكشتاين، الذي لم يحدد لقاءات في بيروت أو تل أبيب بانتظار ما ستؤول اليه الاتصالات الجارية. وكانت صحف اسرائيليّة، وعلى رأسها "يديعوت أحرونوت"، تحدثت عن أن "احتمال التوصل إلى تسوية مع لبنان أكبر من احتمال إنجاز صفقة تبادل أسرى تعيد المحتجزين في قطاع غزّة".
وعكس ذلك تصريح وزير الطاقة إيلي كوهين الذي قال إن إسرائيل "أقرب من أي وقت مضى، منذ بداية الحرب، إلى التوصل لاتفاق بشأن الأعمال القتالية مع "حزب الله"، لكنه أضاف أن "إسرائيل لا بد أن تحتفظ بحرية تنفيذ العمليات داخل لبنان في حالة انتهاك أي اتفاق". أما وزير الخارجية الإسرائيليّة جدعون ساعر، فأشار إلى أن "هدف إسرائيل نزع سلاح "حزب الله" من جنوب لبنان حتى نهر الليطاني ومنع تعزيز قوته".
وبحسب ما نقله موقع "أكسيوس" عن مصادر فإن "التعقيد على الجانب اللبناني كبير. ويجري الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي محادثات مع "حزب الله" من جهة ومع الولايات المتحدة من جهة أخرى في محاولة للتوصل إلى أرضيّةٍ مشتركة". وتبدو هذه الأرضية غير جاهزة بعد لغياب الرؤية التي تضمن الوصول الى آليات تنفيذية للحل وسط الاجماع اللبناني برفض أي "وصاية" برية وبحرية وجوية والتمسك بالقرار الدولي 1701 دون أي زيادة أو نقصان.
وتواكب هذه التحركات ارتفاع وتيرة العمليات العسكرية من جانبي "حزب الله" واسرائيل، التي كثفت من ضرباتها للضاحية الجنوبية لبيروت بمعدل استهداف كل 5 ساعات، مخلفة دمار هائل وخسائر مادية كبيرة. كما واصل الاحتلال قصف النبطية وصور والبقاع وبعلبك بغارات عنيفة. من جهته، أعلن "حزب الله" عن هجوم جوي على قاعدة "إلياكيم" التي تبعد عن الحدود اللبنانية الفلسطينية 50 كلم، جنوبي مدينة حيفا، الى جانب قصف 6 مستوطنات إسرائيليّة في الشمال على الأقل، بصواريخ ومسيّرات انقضاضية.
هذا وتتكثّف الاشتباكات عند محاور التّوغل البري، حيث اعترف الجيش الإسرائيلي، بمقتل ضابط هو قائد فصيل وإصابة آخر بلواء غولاني في معارك جنوب لبنان. وأقرّ الجيش الإسرائيلي، بمقتل 192 ضابطًا منذ بداية الحرب، بمعدل "واحد من كل 4 قتلى في صفوف الجيش هو قائد". وأوضح أنه "قُتل 12 قائد كتيبة بينهم 7 برتبة مقدم منذ بداية الحرب".
تزامناً، قال البنك الدولي إن الصراع تسبب في خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان بنسبة 6.6٪ هذا العام، مما يفاقم الانكماش الاقتصادي الحاد المستمر على مدى 5 سنوات ليتجاوز 34 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ورسم تقرير التقييم الأولي للأضرار والخسائر في لبنان صورة قاتمة مع بلوغ الأضرار المادية والخسائر الاقتصادية نحو 8.5 مليار دولار.
ورغم هذا الحراك على الجبهة اللبنانية، تغيب غزّة عن القنوات المفتوحة للتفاوض بعد تجميد قطر دورها كوسيط وغياب الجهود الجدية الرامية لانهاء معاناة سكان القطاع الذين يعيشون ظروف انسانية صعبة، حيث كشفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية أن أوامر الإخلاء ترقى إلى "جريمة حرب" تتمثل في "تهجير قسري" في مناطق، وفي مناطق أخرى تصل إلى "تطهير عرقي".
وتنوعت عناوين الصحف العربية الصادرة اليوم حيث عكست الاهتمام بقمة الرياض ومفاعيل قراراتها على وقع استمرار الحرب الاسرائيليّة على غزّة ولبنان:
نوهت صحيفة "الرياض" السعودية بالقمة العربية الاسلامية المشتركة التي "خرجت بالتعبير والموقف القوي الذي تبنته السعودية بضرورة إيجاد الحلول الجذرية لحقن الدماء في غزّة وإيقاف دبابات الحرب والعمليات العسكرية في لبنان، وأهمية رسم مسار سياسي سلمي". وقالت: "وضوح المسار والتوجه وقوة الرسالة ربما يجعل كثيرين في الغرب والشرق يغيرون مواقفهم تفاعلا مع الاتفاقات الكاملة التي ظهرت وبما سيكون ذا أثر كبير على مسار القضية الفلسطينية وقبل ذلك حقن دماء الفلسطينيين واللبنانيين".
وضمن هذا الإطار، شددت صحيفة "القدس" على أن "حياة الشعوب لا ترتهن أو يُحدد مصيرها بحياة الأحزاب والطبقة السياسية، بل بإرادة الشعوب وعدالة قضيتها وصمودها على أرضها، وبالرغم مما لحق بالشعب الفلسطيني من نكبات وما يبدو من مظاهر قوة باطشة للعدو، إلا أن هناك ما يمكن البناء عليه للحفاظ على حضور القضية وثبات الشعب". وتابعت: "قد يكون في المبادرة السعودية لتشكيل تحالف دولي لتنفيذ حل الدولتين فرصة لاستعادة التوازن ورد الاعتبار ولو نسبياً للنظامين الفلسطيني والعربي".
وأشارت صحيفة "الخليج" الإماراتية إلى أن "غزّة وكل فلسطين تقع في قلب الدائرة الأولى لأمن إسرائيل، وهذا ما يفسر لنا رفضها قيام الدولة الفلسطينية مهما كانت الضمانات بسلميتها وديمقراطيتها، ففكرة الدولة نقيض لأمن إسرائيل"، مؤكدة أن "إسرائيل بحكم قيامها على أساس عنصر القوة وعلى حساب الفلسطينيين الذين شردوا من مدنهم وقراهم، تعتبر التهديد صفة دائمة وملاصقة لوجودها حتى مع قيام السلام مع أي طرف".
وفي مقال، لفتت صحيفة "الأهرام" المصرية إلى أن "قضية فلسطين لن تختلف بتغير الرئيس الأمريكي، فالسياسات واحدة وإن اختلفت وسائل تطبيقها وكيفيتها"، معربة عن اعتقادها أن "المواطن الأمريكي الذي يحيا صعوبات اقتصادية عدة، اختار برنامج ترامب الاقتصادي وليس ترامب نفسه، من أجل تحسين وضعه الذي هوى به بايدن خلال سنوات حكمه، ولأن ترامب رجل أعمال فمن الطبيعي أن يركز على مصلحة بلاده، ويقلل من انفاق أموالها خارج أراضيها، ويسعى للحفاظ على مصالحها بالمنطقة العربية".
أما صحيفة "البلاد" البحرينية، فرأت أن "المشروع الشرق أوسطي لن يتوقف في لبنان، إنما سيمتد إلى سوريا لتقيم إسرائيل حزاما أمنيا بينها وبين سوريا حيث يقول نتنياهو سنمنع الأوكسجين عن الرئة التي يتنفس من خلالها "حزب الله". وأضافت: "أعطى النظام الإيراني الذرائع لإسرائيل لتنفيذ هذا المشروع الذي جعل من "حزب الله" دولة تحكم، وهذا وضع سياسي لا يمكن أن يستمر حيث من حق اللبنانيين إقامة دولة لهم وانتخاب رئيس شرعي يقدم مصلحة لبنان كدولة على مصلحة أي حزب أو تيار آخر".
وتطرقت صحيفة "الراي" الكويتية إلى الشأن اللبناني حيث "يراوح المسار الديبلوماسي في "دائرة مقفلة" حتى الساعة ومحصورة بين إسرائيل والولايات المتحدة اللتين تتبادلان المسودات وتخضعانها لتنقيح وصولاً إلى صيغةٍ أحادية الجانب تراعي أهداف تل أبيب وشروطها"، معتبرة أن "مسار الحل، ولو بعد حين، باتت معالمه معروفة ويرتكز على القرار 1701 مع إضافات ذات صلة بآلية تطبيقه والرقابة على ذلك والضمانات الممكنة لإسرائيل في ما خص عدم معاودة تسليح "حزب الله".
(رصد "عروبة 22")