ثقافة

سجن "صنّاع المحتوى".. صونًا لـ"الأخلاق" أم قمعًا لـ"الحريات"؟!

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

صدرت في الأيام الأخيرة عدة أحكام سجنية في تونس بحق عددٍ من صنَّاع المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي بتهمة "الاعتداء على الأخلاق الحميدة". وتثير هذه الخطوة جدلًا كبيرًا بين من يراها ضرورية للحد من انفلات المحتوى الرقمي في البلاد إلى مستويات غير مقبولة، ومن يرى أنها تأتي في سياق رغبة السلطة بالسيطرة على الفضاء العام وضرب حرية التعبير أكثر.

سجن

قضت محكمة تونسية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري بسجن أربعة من صنّاع المحتوى وناشطين على منصتي "إنستغرام" و"تيك توك" لمُددٍ تُراوح ما بين عام ونصف العام وأربعة أعوام ونصف العام بتهم "مضايقة الغير والتجاهر عمدًا بفاحشة والظهور بوضعيات مخلّة بالأخلاق الحميدة أو منافية للقيم المجتمعية من شأنها التأثير سلبًا في سلوكيات الشباب".

وفي السادس من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أصدر القضاء التونسي أحكامًا جديدة بالسجن لمدة سنتين في حق صانع وصانعة محتوى معروفيْن لدى النشطاء على منصات "تيك توك" و"إنستغرام" بناءً على التهم عينها. وفي السابع من الشهر عينه، تم الحكم بالسجن خمسة أعوام في حق أربع ''صانعات محتوى''.

وجاءت هذه الأحكام القضائية بعد البيان الذي نشرته وزارة العدل التونسية منذ أكثر من أسبوعين، وجاء فيه أنّ "وزيرة العدل أذنت للنيابة العمومية باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة وفتح أبحاث جزائية ضد كل من يتعمّد إنتاج أو عرض أو نشر بيانات معلوماتية أو بثّ صور أو مقاطع فيديو تحتوي على مضامين تمسّ بالقيم الأخلاقية".

وذكرت الوزارة في بيانها أنّ انتشار ظاهرة استخدام بعض الأفراد لشبكات التواصل الاجتماعي، وخصوصا "تيك توك" و"إنستغرام"، لعرض محتويات معلوماتية "تتعارض مع الآداب العامة أو استعمال عبارات أو الظهور بوضعيات مخلّة بالأخلاق الحميدة أو منافية للقيم المجتمعية من شأنها التأثير سلبًا في سلوكيات الشباب الذين يتفاعلون مع المنصات الإلكترونية المذكورة".

وقد أثار إصدار هذه الأحكام بالسجن على صنّاع المحتوى، انقسامًا لدى الرأي العام التونسي بين من اعتبرها خطوة لحماية المجتمع من الفساد والانحطاط وفرض الانضباط، ومن رأى فيها أحكامًا مبالغًا فيها تأتي في سياق نزوع السلطة منذ فترة لتقييد حرية التعبير، ولكن هذه المرّة بغلاف أخلاقي.

ويبرّر المرحبون بهذه الأحكام ما يجري بأنها خطوة مهمة لضبط طفرة المنشورات "غير الأخلاقية" التي ينشرها بعض صنّاع المحتوى على منصات "تيك توك" و"إنستغرام" لغايات ربحية حصرًا حتى على حساب القيم المجتمعية.

وفي هذا السياق، يقول رئيس الجمعية التونسية لمقاومة الجريمة الإلكترونية، المحامي مهدي اللواتي "إنّ استفحال هذه المضامين تستدعي تدخل الدولة ممثّلة بالأجهزة القضائية لوضع حدٍّ لظاهرة النشر المخلّ بالآداب العامة من أجل تحقيق مكاسب مالية، فعندما تتصفّح مواقع، مثل "تيك توك"، اليوم تجد أنها تحوّلت إلى أوكار بغاء بطريقة علنية".

وأما منتقدو الاحكام فيرون أنّ هذا التسريع بإصدار الأحكام بالسجن يتعارض مع ما يتيحه النظام القضائي في تونس من بدائل عقابية بعيدًا عن تلك السالبة للحرية، فضلًا عن اعتماد التدرّج في فرض العقوبات قبل الذهاب للسجن. كما أنّ إعادة إحياء نصوص قانونية وتكييفها مع سياقات أخرى أو التعسف في تأويلها، من شأنه أن يجعلها نصوصًا قانونية فضفاضة قد يُساء استخدامها في سياقات أخرى تعود بالضرر على المواطنين.

من جهة أخرى، فإنّ النزوع القضائي اللافت لإصدار أحكام سجنية طويلة بذريعة حماية "الأخلاق الحميدة" يثير الريبة حول الأهداف الحقيقية لهذه الحملة الجديدة من الملاحقات القضائية. فالسلطة تدرك جيدًا أنّ السجن لن يمنع المجتمع، وبخاصة الأطفال والمراهقون، من الوصول إلى المحتوى المسيء على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنّ الأمر مرتبط بسياسة وبرامج لا بد أن تضعها الدولة من أجل حماية هذه الشرائح المجتمعية من أنواع معينة من المحتوى الالكتروني، وضرورة وعي الأولياء لضرورة مراقبة أبنائهم وتنظيم عملية ولوجهم إلى هذه المواقع، لأن دخول صنّاع المحتوى "المخلّ بالأخلاق الحميدة" السجن لن يمنع وصول الأطفال والمراهقين إلى محتوى بالقدر ذاته من السوء وأكثر يقّدمه مؤثرون آخرون قد لا يكونون تونسيين.

ولهذا تبدو الحملة وكأنها تتمة لمسلسل التضييق على النشر على منصات التواصل الاجتماعي الذي انطلق منذ إصدار الرئيس التونسي قيس سعيد المرسوم الرقم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال في سبتمبر/أيلول 2022، والذي تحوّل من وسيلة لتنظيم عملية النشر على منصات التواصل الاجتماعي إلى أداة لمحاكمة الصحافيين والمدوّنين والناشطين التونسيين.

وهذا ما يؤكده الباحث في علم الاجتماع، منير السعيداني، بقوله لـ"عروبة 22" إنّ "الهدف الرئيسي للسلطة يبقى توسيع سيطرتها على النظام العام إلى أقصى حد ممكن، والذي يشمل طرق تفكير المواطنين وآراءهم وما ينتجون من أفكار. ولذلك تنظر السلطة إلى أي شيء يتمّ إنتاجه من قبل المواطنين، أو بعضهم، باعتباره خطرًا على الحياء العام والأخلاق، وربما هذا صحيح في بعض السياقات لكن طرق التعاطي معه تطرح أكثر من سؤال".

وليست تونس وحدها التي تتجه لتجريم المحتوى "غير الأخلاقي" في الفضاء الرقمي، إذ سبقتها عدة دول عربية إلى هذه الخطوة على غرار قانون الجرائم الإلكترونية في ليبيا عام 2022 الذي يُلزم الهيئة المختصة بحجب المواقع والصفحات التي تعرض "مواد مخلة بالآداب العامة".

كما تشهد مصر سلسلة إيقافات تطال في كل مرة صنّاع "المحتوى الهابط" بتهمة "الاعتداء على المبادئ أو القيم الأسرية". في حين أطلقت الحكومة العراقية في فبراير/شباط 2023 حملة إيقافات ضد مروّجي "المحتوى الهابط" شملت عددًا من مشاهير بعض مواقع التواصل الاجتماعي.

كذلك هناك عدة دول غير عربية تعمل على وضع ترتيبات لمراقبة المحتوى الرقمي كالبرازيل، حيث قالت الهيئة الوطنية لحماية البيانات إنها رصدت ما وصفته بـ"مؤشرات إلى انتهاكات المعايير البرازيلية بشأن استخدام القاصرين للإنترنت". كما تواجه منصة "تيك توك" دعاوى قضائية جديدة في 13 ولاية أميركية ومقاطعة كولومبيا، تتهم المنصة بالتسبب في الأذى للأطفال. وفي فرنسا قامت بعض العائلات برفع دعاوى قضائية ضد المنصة، واتهموها بتعريض أطفالها ومراهقيها لمحتوى مضرّ، أدى حتى إلى الانتحار.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن