اقتصاد ومال

أزمة النازحين في لبنان.. ما إمكانية التصرّف باحتياطي العملات الأجنبية؟

يظهر في الآونة الأخيرة نقاش جدي، بل ضغط صريح، بشأن ضرورة استخدام مصرف لبنان احتياطي العملات الأجنبية، وحتى تصفية مخزون الذهب، لتغطية النفقات المعيشية للنازحين داخليًا نتيجة الحرب الدائرة بين "حزب الله" وإسرائيل. قد يبدو هذا الطلب عادلًا من وجهة نظر إنسانية، إلا أنه غير مقبولٍ من منظور قانوني ومؤسسي. فمصرف لبنان مُكلّف بضمان الاستقرار النقدي واستقرار سعر الصرف، وليس العمل كخزينة أو ماكينة نقدية للحكومة.

أزمة النازحين  في لبنان.. ما إمكانية التصرّف باحتياطي العملات الأجنبية؟

فعليًا، وفي ظل الأزمة اللبنانية، يُعتبر احتياطي العملات الأجنبية مُلكًا للمودعين. بالتالي، حتى من منظور الإنصاف، إنّ صرف الاحتياطي على دعم النازحين قد يأتي على حساب المطالب المشروعة للمودعين.

ماذا عن المنظور الاقتصادي؟ هل من أسباب وجيهة لدعم مثل هذا الطلب؟ يوجد دافعان وراء احتفاظ البنوك المركزية باحتياطي النقد الأجنبي: دافع المعاملات لتغطية اختلالات المدفوعات التي يُفترض أنها تنمو مع المعاملات الدولية، ودافع احترازي لتخفيف الاختلالات غير المتوقعة بالمدفوعات الدولية. بالطبع، الدافع الاحترازي هو الأكثر أهمية لأنه يهدف إلى تجنّب الاضطرابات في سوق العملات الأجنبية أو سعر الصرف. وعلى القدر عينه من الأهمية، ما هي المعايير التي تحدد احتياطيات كافية و/أو مثالية من العملات الأجنبية لكي تلبي احتياجات هذين الدافعين؟.

تحدّد الأدبيات الاقتصادية ثلاث نسب تضمن كفاية الاحتياطي:

1. نسبة تغطي من 3 إلى 4 أشهر من الواردات لدعم المستوى الحالي للواردات في البلاد.

2. نسبة تغطي 100% من الالتزامات المتعلقة بالديون قصيرة الأجل لتفادي مشكلات التجديد.

3. نسبة تغطي 10% من المعروض النقدي العريض لمنع أي ضغط زائد على الطلب على النقد الأجنبي من الأموال المحلية[1].

مع استنزاف احتياطي العملات الأجنبية ستتعرض الليرة لهجمات ذعر ومضاربة تجعل حياة جميع المواطنين أكثر بؤسًا

بالطبع لا تنطبق النسبة الثانية على حالة لبنان لأنّ البلد في حالة تخلّف عن السداد. مع ذلك، هناك ثلاثة عوامل تجعل نسب كفاية الاحتياطي المذكورة أعلاه (الأولى والثالثة) منخفضة:

1. لبنان اقتصاد صغير مفتوح مع ميْل كبير للاستيراد.

2. يحاول مصرف لبنان تثبيت سعر الصرف عند 89.500 ليرة لبنانية مقابل الدولار الأميركي، لذا فإنّ ذلك يتطلب المزيد من احتياطيات العملات الأجنبية المتاحة له.

3. لبنان معزول عن أسواق رأس المال الدولية (بسبب التخلّف عن السداد) لذا يعجز عن الوصول لتدفّقات رأس المال الخاص التي من شأنها أن تدعم احتياطياته من العملات الأجنبية.

نتيجة لذلك، فإنّ المنطق الاقتصادي السليم يقتضي بأنّ النسب المذكورة يجب أن تتضاعف (أقلّه) للحفاظ على كفاية الاحتياطي. يجعل هذا نسبة تغطية الواردات عند 7 أشهر ونسبة المعروض النقدي العريض (M2) عند 20%. في هذا الصدد، تشير أحدث أرقام الواردات لعام 2023 إلى أنّ واردات السلع بلغت 17,524 مليون دولار أميركي، وبالتالي فإنّ تغطية الواردات تتطلب 10,222 ملايين دولار أميركي من احتياطي النقد الأجنبي. أما بالنسبة للمعروض النقدي، فقد بلغ 1,180 مليون دولار أميركي في نهاية تشرين الأول 2024، وبالتالي فإنّ تغطيته تتطلب 236 مليون دولار أميركي من احتياطي النقد الأجنبي[2]. على هذا النحو، فإنّ احتياطيات النقد الأجنبي الكافية من هاتين النسبتين تصل إلى 10,458 ملايين دولار أميركي. ومع ذلك، يُظهر الجدول أعلاه أنّ الاحتياطيات الفعلية من العملات الأجنبية (السائلة) أقل من ذلك إذ بلغت في نهاية أكتوبر/تشرين الأول من العام الجاري 10,263 ملايين دولار أميركي (أي نقص بحدود 200 مليون دولار أميركي). لذا، فمن الناحية الاقتصادية، لا يستطيع مصرف لبنان أن يتحمّل نفقات النازحين.

ليس هذا كل شيء. فبين نهاية سبتمبر/أيلول 2023 ونهاية سبتمبر/أيلول 2024 (أنظر الجدول أعلاه)، راكم مصرف لبنان حوالى 2,284 مليون دولار أميركي من احتياطيات النقد الأجنبي السائلة. وبالنظر إلى أنه "أنفق" 200 مليون دولار أميركي تقريبًا شهريًا (حوالى 140 مليون دولار أميركي على الأجور العامة بالدولار الأميركي و60 مليون دولار أميركي على التعميميْن 166 و158)[3]، بتكلفة سنوية تبلغ 2,400 مليون دولار أميركي، فلا بد أنّ مصرف لبنان قد تمكن من "سحب" ما يقرب من 4,684 ملايين دولار أميركي من سوق العملات الأجنبية خلال تلك السنة[4]. إلا أنه في أكتوبر/تشرين الأول 2024 وحده، انخفضت احتياطياته السائلة من العملات الأجنبية بمقدار 435 مليون دولار أميركي لتبلغ 10,263 ملايين دولار أميركي في نهاية ذلك الشهر بسبب استمرار التزام المصرف بدفع الأجور العامة بالإضافة إلى مدفوعات 3 أشهر للتعميمين 166 و158، وعلى ما يبدو، استخراجه المحدود لاحتياطي العملات الأجنبية من السوق بسبب شدة الحرب و/أو محدودية تدفّقات تحويلات العمالة في ذلك الوقت.

يتطلب حلّ أزمة النازحين تمويلًا خاصًا يمكن أن يأتي من المنح والإقراض الميسّر من المؤسسات والبلدان المانحة

عليه، ستزداد الأمور تعقيدًا إذا ما تحمّل مصرف لبنان عبء نفقات النازحين. وتشير التقديرات إلى أنّ كل نازح يكلّف حوالى 6 دولارات أميركية يوميًا. ومع وجود 1.2 مليون نازح[5]، ستصل التكلفة الشهرية إلى 216 مليون دولار أميركي، أي ما يعادل تقريبًا ما يخصّصه المصرف للأجور العامة والتعميميْن 166 و158. وستكون النتيجة استنزاف المزيد من احتياطي العملات الأجنبية، ولكن بمعدل أسرع من أكتوبر/تشرين الأول 2024 وأسوأ ما في الأمر أنه مع استنزاف احتياطي العملات الأجنبية (كما يحدث عادةً في مثل هذه الحالات) ستتعرض الليرة اللبنانية لهجمات الذعر والمضاربة التي ستأخذها إلى مستويات منخفضة جديدة وأعمق وتجعل حياة جميع المواطنين - وليس فقط النازحين - أكثر بؤسًا. بعبارة أخرى، ستظهر أزمة بسعر الصرف قبل استنفاد احتياطي مصرف لبنان بوقت طويل، وهو ما حدث إلى حدٍّ كبير في 2020-2021 بعد أن بدأت حكومة حسان دياب برنامج الدعم الشائن.

إذا كان المنظور القانوني والاقتصادي لا يدعم استخدام احتياطي العملات الأجنبية لمساعدة النازحين، فهذا لا يعني أنّ الأمر سيّان بالنسبة للمنظور الأخلاقي. على العكس، يستند المنظور الأخلاقي إلى حجّة معنوية أنّ النازحين هم مواطنون لبنانيون بحاجة ماسّة للمساعدة. لكن المساعدة يجب أن تأتي، أولًا وفي أقرب وقت ممكن، من خلال إيجاد حل سياسي دائم لقضية أزمة النازحين. وعلى هذا النحو، يمكن النظر إلى الأزمة على أنها مؤقتة قصيرة الأمد، ويتطلب حلّها تمويلًا خاصًا لتسليس النفقات. يمكن أن يأتي هذا التمويل من المنح الرسمية و/أو الإقراض الميسّر من المؤسسات المتعدّدة الأطراف والبلدان المانحة.

وأخيرًا، ماذا عن الإيرادات الحكومية؟ هل يمكن استخدامها لتمويل نفقات النازحين؟ إذا التزمنا بالنفقات الحكومية بالدولار الأميركي حتى لا نعرّض الاستقرار النقدي للخطر، فإننا نقدّر أنّ الودائع العامة بالدولار الأميركي لدى مصرف لبنان لا تقل عن 591 مليون دولار أميركي في نهاية سبتمبر/أيلول 2024 (انظر الجدول أعلاه). يعني هذا أنها لا تكفي إلا لثلاثة أشهر (كحدٍّ أقصى) من الإنفاق على النازحين، لكن عيبها الرئيسي أنها ستؤدي إلى خفض احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية بمبلغٍ مساوٍ وتؤدي إلى استنزاف لا داعي له في الاحتياطي. وستتطلب الودائع قانونًا خاصًا يسنّه البرلمان لهذا الغرض أو إدراجها كإضافة في موازنة 2025. مع ذلك، وباستثناء إمكانية الحصول على المنح والإقراض الميسّر، يمكن استخدام الودائع الحكومية كملاذ أخير.

بدّد مصرف لبنان المال الجيّد بعد السيّء وها هو التاريخ يعيد نفسه مع دعوات سياسية لمصرف لبنان بتحمل نفقات النازحين

في لبنان، انبثقت الأزمة الاقتصادية وأزمة الحكم الرشيد في الكثير من الأحيان من الإنفاق المتهور لاحتياطي العملات الأجنبية في مصرف لبنان. وقد سهّل المصرف حرية التصرف بالاحتياطي: لدفع فواتير المحروقات لمؤسسة كهرباء لبنان، وتمويل الإسكان المدعوم، وخدمة الدين الخارجي، ودعم السلع الأساسية، وإقراض الحكومة من دون أي تمحيص. وقد ثبت أنّ ذلك كان كارثيًا، إذ إنه أزال أي قيود على ميزانية الحكومة، وألغى الحاجة المُلحّة للإصلاح، وخلق انطباعًا خاطئًا بأنّ المشاكل يمكن حلها إذا ما "ألقى" مصرف لبنان ببساطة احتياطياته من العملات الأجنبية على هذه المشاكل - ناهيك عن حقيقة أنّ هذه الإجراءات لم تكن جزءًا من ولايته أو هي غير قانونية.

بهذه العملية، بدّد مصرف لبنان المال الجيّد بعد السيّء إلى أن جاء يوم الحساب في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 (اندلاع الشرارة الأولى للثورة في لبنان) وانهار النظام المالي اللبناني بأكمله. ها هو التاريخ يعيد نفسه اليوم مع دعوات جديدة من بعض الأوساط السياسية لمصرف لبنان بتحمل نفقات النازحين. لكن هذه المرة، يبدو أنّ مصرف لبنان مدرك لهذه الحالة الشاذّة وتداعياتها المخيفة. لذا، ولحسن الحظ، نأمل أن يكون قد تم استخلاص الدرس لما فيه مصلحة مصرف لبنان ومصلحة البلاد.



[1] المعروض النقدي العريض (M2) يتكوّن من العملة المتداولة والودائع بالليرة اللبنانية.

[2] لاحظ أنه في نهاية تشرين الأول 2019، أي عند بدء الأزمة الاقتصادية، بلغت احتياطيات مصرف لبنان من العملات الأجنبية السائلة 30,980 مليون دولار أميركي، في حين بلغت قيمة المعروض النقدي العريض 45,780 مليون دولار أميركي!

[3] تدفع الحكومة هذه الأجور بالليرة اللبنانية لمصرف لبنان ويقوم الأخير بتحويلها إلى الدولار الأميركي بالسعر "الرسمي" الساري البالغ 89,500 ليرة لبنانية. ويتضمن التعميم 166 دفع 150 دولارًا أميركيًا شهريًا، والتعميم 158 دفع 300/400 دولار أميركي شهريًا، لكل مودع مؤهل.

[4] من المثير للاهتمام أنّ هذا يساوي بالضبط تقريبًا صافي تحويلات العمالة السنوية (التدفقات الداخلة مطروحًا منها التدفقات الخارجة).

[5]  جريدة النهار، عدد 4 تشرين الثاني 2024.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن