الحقيقة أنّ الانقسام بين الممانعة والاعتدال ممتد في العالم العربي منذ عقود، وتحديدًا منذ أن وقّع الرئيس الراحل أنور السادات اتفاق صلح منفرد مع إسرائيل عام 1979 استعاد بمقتضاه الأراضي المصرية المحتلّة وبقيت القضية الفلسطينية دون حل.
وقد حمل أول مسمى لمحور الممانعة اسم "جبهة الصمود والتصدي" وضم 5 دول عربية في مواجهة توجّهات الرئيس السادات للتسوية السلمية، وكان أبرز أركانها نظاما "البعث" في العراق وسوريا اللذان حاربا بعضهما البعض وليس إسرائيل، وسرعان ما تفكّكت هذه الجبهة وانتقلت منظمة التحرير الفلسطينية من محور "الصمود والتصدي" إلى الاعتدال عقب توقيعها على "اتفاق أوسلو" في 1993 الذي كان يفترض أن يؤدي إلى بناء دولة فلسطينية قضت عليه حكومة شارون ثم نتنياهو ببناء المستوطنات وحصار السلطة الفلسطينية وإضعافها والإنهاء الفعلي لفرص الحل السلمي.
مناقشة استحقاق المقاومة تكون حول التوقيت والأسلوب المستخدَم وليس حول المبدأ
والمؤكد أنّ خيار التسوية السلمية لم يكن محلّ إجماعٍ على الساحة العربية والإقليمية خاصة بعد أن فشل الرئيس السادات في أن يقدّم حلًا شاملًا للصراع العربي - الإسرائيلي عبر "كامب دايفيد"، وعجزت السلطة الفلسطينية عن انتزاع الدولة الفلسطينية عبر مسار أوسلو، إلا أنّ هذا الخيار لم يُفرض على الآخرين ولم يُجبر أي طرف على أن يتبنى الخيار السلمي أو ما عُرِف بخيار الاعتدال الذي كان محل نقد من جانب الكثيرين.
أما خيار المقاومة أو الممانعة الذي أعيد تقديمه مرة أخرى من خلال إيران، وشاركها فيه عدد من التنظيمات المسلحة وعلى رأسها "حزب الله" بجانب سوريا، ونجحت في بناء نموذجٍ سياسي أكثر كفاءة من كل نُظُم الصمود والتصدّي والممانعة العربية، وامتلكت أوراق ضغط وناورت أميركا والغرب وبَنَت قاعدةً صناعية جيدة وصمدت في وجه العقوبات الغربية، كل ذلك سيظل مقبولًا بل ومحلّ إشادة لو كانت إيران تحمّلت بمفردها استحقاقات خيار الممانعة ولم تنقلْه إلى بلدان أخرى لم تُستَشَر شعوبها في مدى قناعتها بهذا الخيار أو استعدادها لدفع استحقاقاته على الأقل في الوقت الحالي.
والحقيقة أنّ صمود المقاومة في لبنان في وجه الاعتداءات الإسرائيلية كان محلّ إشادة من كثيرين بمن فيهم المختلفون مع "حزب الله"، وأنّ هذا الصمود صار في التوقيت الحالي الورقة الأساسية في يد لبنان من أجل الوصول لاتفاق وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701، وأنّ الأدوات المعتدلة والسلمية التي يمتلكها العالم العربي ولبنان وقفت عاجزة عن وقف جرائم إسرائيل ودفعها لوقف إطلاق النار.
ومع ذلك فإنّ الإشادة بالصمود الحالي لا يمنع الاختلاف على المبدأ وهو فرض استحقاق المقاومة المسلّحة بشكلٍ منفرد على مختلف مكوّنات الشعب اللبناني وهذا أحد جوانب الخلل الرئيسية في مشروع الممانعة في أكثر من ساحة عربية.
استحقاق المقاومة مفهوم ومتوافق عليه كمبدأ وقيمة عليا في حال البلدان المحتلة فهو خيار مشروع في فلسطين، وتكون مناقشته حول التوقيت والأسلوب المستخدَم، وليس حول المبدأ، أما البلاد غير المحتلة أراضيها فمن حقّ شعوبها أن تقرّر إذا ما كانت ستختار المقاومة المسلحة كأسلوبٍ لدعم القضية الفلسطينية أم المقاومة السلمية والدعم المادي والقانوني والسياسي.
استحقاق الممانعة سيكون محلّ تقدير إذا كان من سيتحمّل تبعاته من اختاروه فقط
علينا ألا ننظر إلى خيار الاعتدال كأنه خيار "الخاملين" و"المنبطحين" فالاعتدال الفاعل له استحقاقات وأثمان في بعض الأحيان تكون باهظة بسبب قوة "اللوبي الصهيوني" في العالم كله، ومواجهته لأي دولة أو مؤسسة أو فرد يواجه سلميًّا سياسات إسرائيل، فجنوب أفريقيا لم تَخَف من إرهاب إسرائيل ودفعت استحقاقات "الاعتدال الفاعل" وقامت بأهم حملة قانونية وسياسية ضد جرائم دولة الاحتلال، كما أنّ اتفاق أوسلو جاء في أعقاب انتفاضة شعبية كبيرة وملهمة وهي انتفاضة الحجارة في 1987 والتي بفضلها دخلت منظمة التحرير الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات مسار التفاوض السلمي وهي تمتلك ورقة الإرادة الشعبية.
هناك استحقاقات وأثمان تُدفع لخيار الاعتدال والممانعة يجب أن يتحمّلها فقط المؤمنون بها، فخيار الاعتدال يجب أن لا يكون مساويًّا للهزيمة والاستسلام ويجب أن لا يكون منبت الصلة بالانتفاضات الشعبية المدنية العظيمة التي قام بها الشعب الفلسطيني من أجل تحرره واستقلاله، كما أنّ استحقاق الممانعة سيكون محلّ تقدير واحترام إذا كان من سيتحمّل تبعاته من اختاروه فقط دون أن يفرض على من اختلفوا عليه أو على توقيته.
(خاص "عروبة 22")